عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    23-Jul-2025

في ذكرى استشهاد الملك المؤسس.. نداء الوحدة فرصة ضيعها العرب*د. محمد العايدي

 الغد

في منعطفات التاريخ تظهر شخصيات استثنائية تستشرف المستقبل بصفاء الرؤية وصدق البصيرة، فتنطلق نداءات صادقة لنجاة الأمة، كان الملك المؤسس عبدالله الأول ابن الحسين واحداً من هؤلاء، رجلاً أدرك منذ اللحظة الأولى أن العرب إن لم يتوحدوا فإن التمزق مصيرهم، والتبعية قدرهم، والخذلان حليفهم، لقد حمل نداء الوحدة في قلبه وعقله، وجعل من مشروع الوحدة العربية هدفاً لمشروعه السياسي والفكري، لكنه واجه أمة مثقلة بصراعات الزعامات ومكبلة بأنانيات الحزبية والطائفية والإقليمية، ولو أن الأمة العربية استجابت لذلك النداء العظيم في تلك المرحلة الحاسمة من عمر الأمة، لما كنا اليوم أسرى التشرذم والتفرق واستفراد الاعداء بنا.
 
 
لم ير الملك المؤسس الوحدة العربية حلماً طوباويا أو وهماً شاعرياً، بل رآها ضرورة واقعية لبقاء العرب وحفظ كرامتهم ومكانتهم بين الأمم والشعوب، وقد كتب في مذكراته محذراً: « إن من الخسران العظيم على الأمة العربية أن تظل التجزئة فيها تحت استقلالات واهنة تجعل كل جزء منها غير قادر فعلاً واقتصاداً على حفظ كيانه، وإن لم يعد بمجموعه إلى كيان واحد...»، لقد فهم أن العرب ليسوا مجرد تجمع لغوي أو ديني، بل مشروع حضاري موحد لا يمكن أن يزدهر إلا بوحدة القرار والسيادة والاقتصاد والدفاع.
 وحدة الوعي التاريخي العميق مكّنه من قراءة المشهد الدولي والإقليمي، ليحذر قومه من تبعات الانقسام الذي يمهد الطريق للأعداء لاستغلال ضعفهم والتسلط على أرضهم ومقدساتهم.
كان الملك المؤسس شاهداً على انهيار الدولة العثمانية، وما خلفته من فراغ سياسي، ووقف إلى جانب والده الشريف الحسين في اطلاق « الثورة العربية الكبرى» ساعياً إلى استقلال العرب ووحدتهم، وحين قامت مملكة شرق الأردن لم يتوقف عن الحلم بوحدة أشمل، وكتب مذكراته لتكون شهادة على قناعته بأن وحدة العرب ليست خياراً ثانوياً، بل قدر لا مفر منه، غير أن الزعامات المحلية والنزاعات الطائفية والتدخلات الأجنبية جعلت حلمه الكبير يتبخر في زوبعة الصراعات.
لقد كتب وكأنه يصف مصيرنا الحالي: « إن الأمة إذا لم توحد صفوفها وظلت أسرى الحزازات المذهبية والحزبية والإقليمية، فإنها تقهر وتُستعبد وتُذل».
واليوم فيما تنزف غزة تحت القصف والتجويع والإبادة الجماعية، وتستباح القدس، ويتواصل الاستفراد بكل قطر عربي على حدة، نتذكر بمرارة كيف ضاعت فرصة مشروع الوحدة الذي حمل لواءه الملك المؤسس، ما يجري في فلسطين وغزة ليس سوى نتيجة طبيعية لانهيار المشروع الوحدوي، وفشل العرب في حمل راية كيان موحد قادر على رد العدوان والدفاع عن الكرامة، لقد ادرك الملك المؤسس قبل غيره أن فلسطين ستكون أول ضحايا الانقسام العربي وان الاحتلال لن يجرؤ على ما يفعل لو أن العرب قد لبوا نداء الوحدة.
إن مشاهد الدم في غزة وتمزق الجغرافيا العربية إلى دويلات ضعيفة، أو دول فاشلة دليل ساطع على عمق رؤية الملك المؤسس، وعلى فداحة الثمن الذي دفعته الأمة حين خذلت مشروعه، وضيعت فرصتها في بناء درع عربي موحد.
في ذكرى استشهاده نستحضر اليوم تلك العقلية الفذة، والسياسة الحكيمة التي سبقت زمانها، واستشرفت ما ستؤول إليه حال الأمة أن خذلت مشروع الوحدة العربية، لقد كان الملك المؤسس سابقاً لعصره، مدركاً ببصيرة ثاقبة أن ضعف العرب لن يكون إلا من داخلهم، وأن التشرذم لن يجلب لهم إلا الذل واستقواء الأعداء عليهم.
أن نداءه مازال حياً فينا: الوحدة ليست شعاراً، ولا ترفاً، بل هي قدر الأمة، وسر بقائها، أما التفريط فيها فهو الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه، من تفرق وضعف وتطاول الاعداء علينا وتدميرنا واحدا تلو الآخر.
في ذكرى رحيله نقف وقفة اعترف لرجل لم يكن ملكاً فقط، بل ضميراً حياً للأمة، وناصحاً أمينا لها، لعل دماء أطفال غزة ونسائها توقظ فينا ما تبقى من ضمير، لنستجيب لنداء الوحدة مرة ثانية، قبل أن يصبح بكاؤنا على الاطلال هو كل ما تبقى لنا.