الغد
سلكت طائرة نتنياهو نحو الولايات المتحدة لإلقاء خطابه في الأمم المتحدة مسارا هروبيا، خشية الملاحقة والاعتقال بمذكرة المحكمة الجنائية الدولية، حتى لو كانت الدول التي تمر في أجوائها صديقة أو حليفة وداعمة. فلم تعبر سوى أجواء اليونان وإيطاليا، قبل أن تدخل المحيط في طريقها إلى أميركا عبر مضيق جبل طارق.
لا يمكن عزل «جناح صهيون»ــ اسم طائرة نتنياهوــ عن المأزق القانوني والسياسي الذي يواجهه بعد مذكرة المحكمة الجنائية الدولية. فقد بدا واضحا أن مكتب نتنياهو وحكومته يدرسان بدقة كل شبر من الأجواء المفتوحة أمامه، خشية من اعتراض أو تنفيذ محتمل لأمر التوقيف. واختياره المرور عبر اليونان وإيطاليا فقط يعكس حجم الحرج الأوروبي، فبينما تبدي بعض العواصم استعدادا لاعتقاله، تتذرع أخرى بخصوصية العلاقة مع إسرائيل أو بهوامش استثناءات دبلوماسية.
في المقابل، يصر نتنياهو على خطاب تصعيدي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، يضعه في مواجهة مباشرة مع الدول الغربية التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، محاولا قلب الطاولة عبر معادلة خطيرة: كل اعتراف بدولة فلسطين هو دعم لـ»المغتصبين وحارقي الأطفال»، على حد تعبيره. هذه اللغة تكشف هشاشة موقفه لا قوته، فهي تنطوي على نزعة تبرير للحرب الطويلة على غزة وللضربات ضد إيران، وتستند إلى تحويل الخصومة مع المجتمع الدولي إلى معركة بقاء.
الموجة الأخيرة من الاعترافات بدولة فلسطين لا تمثل مجرد دعم رمزي، إنما تؤكد انتقال المزاج العالمي إلى ما يشبه الإجماع الأخلاقي على أن الاحتلال الإسرائيلي بات عبئا ثقيلا على النظام الدولي. هذا المسار يضع الولايات المتحدة وإسرائيل في عزلة متزايدة داخل الأمم المتحدة وخارجها، بينما أوروبا نفسها تنقسم، ودوائر الجنوب العالمي تميل بوضوح إلى معسكر الاعتراف. وفي هذه العزلة يجد نتنياهو نفسه محاصرا، فيحاول التعويض بمزيد من التشدد والعنف الخطابي والسياسي.
هنا تبرز احتمالات الجنون السياسي. لا نستبعد أن يلجأ نتنياهو إلى افتعال «عمل أسود» أو عملية غامضة ينسبها للفلسطينيين، بهدف إقناع الغرب أن الدولة الفلسطينية مشروع كارثي، وأن الخطر لا يهدد إسرائيل وحدها، بل استقرار المنطقة بأكملها.
تاريخ إسرائيل مليء بأمثلة استخدام أحداث مشبوهة لتبرير الحروب، والظرف الراهن يسمح لنتنياهو بتكرار هذه اللعبة القديمة تحت شعار «محاربة الإرهاب». نجاح هذه الإستراتيجية قد يورط الغرب في حملة عسكرية جديدة في الشرق الأوسط، ويعيد بناء غطاء غربي موحد حول إسرائيل بعد أن بدأت الأرض تسحب من تحت قدميه.
وفي خلفية هذا المشهد، تأتي الإشارات الأميركية. فالتعديل الرمزي من «وزارة الدفاع» إلى «وزارة الحرب» ليس تفصيلا شكليا، إنما يعكس تحولا في اللغة الإستراتيجية الأميركية من الدفاع إلى الهجوم، من خطاب الردع إلى خطاب المواجهة. أما الدعوة إلى اجتماع طارئ لوزير الحرب الأميركي مع كل الجنرالات المنتشرين حول العالم، فتوحي بأن واشنطن تستشعر حدثا كبيرا في الأفق: ربما مواجهة أوسع مع إيران بعد الضربات الإسرائيلية، وربما اندفاع إسرائيل إلى مغامرة غير محسوبة تستدعي تدخلا أميركيا عاجلا.
إنه الجنون المحتمل، فلننتبه.
هكذا يصبح مسار طائرة نتنياهو أكثر من خط ملاحي، إنما علامة على انتقال إسرائيل إلى وضعية «المحاصر والمطارد»، الذي يحاول كسر الطوق بعاصفة جديدة. والخطر أن يختار نتنياهو، في لحظة يأس وعزلة، تفجير أزمة كبرى تعيد صياغة الاصطفافات الدولية، وتدفع المنطقة كلها نحو هاوية مواجهة مفتوحة.