الدستور
الولايات المتحدة لم تعد تقود من خلال المثال، بل باتت تفرض إرادتها بالقوة والاستثناء- الخبير الاستراتيجي الأمريكي تشالرز فريمان.
بعد أيام من طوفان الأقصى، تداولت وزارة الاستخبارات الصهيونية خطة لترحيل سكان غزة إلى سيناء. ومنذ ذلك الحين، كل ما جرى ويجري من إبادة جماعية في غزة لا يهدف إلا إلى تحقيق هذا المخطط. فبعد أن فشلوا في إخراج أهلنا من غزة بقوة السلاح، وبعد أن حاولوا جعلها أرضًا لا تُطاق للحياة، لجأوا إلى سلاح التجويع لفرض التهجير، وبتواطؤ أمريكي معلن. ولم يعد هذا الهدف خافيًا على أحد، بل يُصرّح به القادة الصهاينة علنًا، دون مواربة.
هل رأيت في حكومات العالم كلها وزيرًا للتراث وهو المنصب الذي يُفترض أن يتولاه فنان مرهف أو باحث في الآثار يخرج على وسائل الإعلام ليُعلن أن الحكومة تسارع إلى محو غزة من الوجود، وأن غزة بأكملها ستكون «يهودية»؟ وهل رأيت في دول العالم وزيرًا للأمن متهمًا بالإرهاب، يغرد علنًا كما فعل بن غفير، وزير الأمن القومي الصهيوني، قائلاً: «إن الوقف الكامل للمساعدات الإنسانية سيسهم في تشجيع الهجرة والاستيطان في قطاع غزة»؟
ويُعلن وزير الدفاع الصهيوني، إسرائيل كاتس، في وقت سابق من هذا الشهر، أن «الخطة الرسمية تقضي ببناء معسكر اعتقال ضخم لسكان غزة على أنقاض رفح، والعمل على ترحيلهم إلى دول أخرى». أما مجرم الحرب نتن ياهو، فقد صرّح في أيار الماضي، دون أي مواربة، أن تنفيذ خطة الرئيس الأمريكي ترامب للتطهير العرقي في غزة هو شرط أساسي لتحقيق السلام في القطاع.
ولم يكن قادة الاحتلال ليتجرأوا على التحدّث بهذا الوضوح عن ارتكابهم لإبادة جماعية، لولا أن الرئيس الأمريكي نفسه أعلن في شباط الماضي عن رؤيته لإخراج جميع الفلسطينيين من قطاع غزة، وتحويله إلى «ريفيرا الشرق الأوسط» تحت إدارة أمريكية.
وهنا تتكشّف الحقيقة: ما يجري في غزة لا علاقة له بالمحتجزين، ولا بحماس، ولا بما يسمّى «حق الكيان في الدفاع عن نفسه». بل يتعلّق فقط بالمشروع الاستيطاني الذي يقوم على إبادة السكان الأصليين وسرقة أراضيهم، تمامًا كما حدث في الأمريكيتين وأستراليا وأفريقيا.
لكن هذه الخطة، حتى الآن، لم تُفلح. فقد رفض الأردن خطة التهجير رفضًا قاطعًا، وها هو اليوم يكسر الحصار، ويُرسل المساعدات إلى غزة متحديًا الضغوط.
وإزاء هذا الفشل، تتفجر الأكاذيب كالبراكين. يكذب الكيان، ويكذب المدافعون عنه. يُقال إن غزة لا تتضور جوعًا، وإن حماس تسرق المساعدات، وإن الأمم المتحدة هي من تمنع دخولها، وإن حماس تعتدي على من يحاول الوصول إليها، وإنها تُفشل المفاوضات. غير أن هذه الأكاذيب سرعان ما تتهاوى أمام الحقائق التي تكشفها وسائل الإعلام ووكالات الأنباء الأجنبية.
من الواضح أن الكيان الصهيوني قد انزلق إلى حرب استنزاف طويلة في غزة، إذ لم يحقق أهدافه، ويتعرض لانتقادات دولية رسمية وسخط شعبي عالمي متصاعد. أما الولايات المتحدة، فهي الأخرى بدأت تدفع ثمن دعمها للإبادة، حين خرج الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، دون تردد، متهمًا واشنطن بالتواطؤ في جرائم الإبادة الجماعية، ومعلنًا بوضوح: «على إسرائيل أن تدرك أن عهد الإفلات من العقاب قد ولّى، وعلى واشنطن أن تختار: إما الوقوف إلى جانب الإنسانية، أو مواجهة العزلة الدولية».
وإن كان موقف الرئيس البرازيلي واضحًا وجريئًا، فهناك أصوات كثيرة تؤيّده همسًا، من بينها مسؤولون سابقون في الإدارات الأمريكية وخبراء استراتيجيون، يعبّرون عن انتقادهم للفيتو الأمريكي الذي يُستخدم لحماية حليف يرتكب إبادة جماعية، ولتزويده بالسلاح على حساب دافعي الضرائب الأمريكيين.
لقد فقدت الولايات المتحدة مصداقيتها، ولم تعد تقود العالم بالقيم أو المثال، بل بالقوة العسكرية وحدها، كأي قوة إمبريالية. تلاشت قوتها الناعمة، وهذا سيلحق بها ضررًا كبيرًا على المدى المتوسط والبعيد. فحتى إن احتفظت بقوتها، فقد خسرت احترام العالم.
وللأسف، فإن المجاعة التي تعصف بغزة قد لا تكون المساعدات قادرة على محو آثارها الكارثية، أو ترميم ما دُمّر. وتحتاج غزة، ويحتاج الأردن، إلى موقف عربي موحد، يدعم أهل القطاع سياسيًا وإغاثيًا. فالمخططات الاستيطانية تنهار، والرأي العام العالمي بات مهيّأ لتلقّي قرارات عربية حاسمة تعزز صمود غزة وتزيد من عزلة الكيان الصهيوني.
إن الكيان والولايات المتحدة يسابقان الريح، في محاولة لفرض مشروعهم قبل أن ينهار تحت ضغط المساعدات والمواقف الدولية.