هل يمكن أن تصبح السعادة سمراء؟.. السر وراء رفاه الدول الإسكندنافية*د. محمود أبو فروة الرجبي
الغد
حلم الرفاه والسعادة الحقيقية في العالم هو «الحلم الإسكندنافي»، فتلك الدول تمكنت من بناء نماذج وطنية للرفاه الاجتماعي ينظر إليها باحترام، وتقدير في العالم كله، ومن الـمؤكد أن وراء ذلك عمل استراتيجي طويل الأمد، وإدارة حصيفة من الحكومات، والتزام ونشاط دؤوب من الشعوب، إذ إن النجاح له شروط، وعوامل عديدة، تتحالف معًا من أجل أن يتحقق، ونحاول في هذا المقال السريع الإجابة على هذا السؤال.
يشير البعض إلى أن جزءًا كبيرًا من سر هذا النجاح يكمن في النموذج (Nordic Model) الذي يجمع بين اقتصاد سوقٍ حرةٍ ودولة رعايةٍ شاملةٍ، ممولةٍ بضرائب تصاعديةٍ مرتفعةٍ، مع شبكة أمانٍ اجتماعي عامةٍ تغطي جميع المواطنين. هٰذا الدمج يقلل فرص انعدام الأمن الاقتصادي، ويرفع مستوى الثقة بين الناس والمؤسسات.
تحققت مثل هذه الإنجازات من مجموعة من العوامل المحاطة بثقةٍ عالية جدًا، بين الشعوب وحكوماتها، وتطبيقات ذكية للديمقراطية، مع بناء اجتماعي قائم على العمل، والالتزام، والصدق، والشفافية المتبادلة.
تتصف هذه الدول بانفاق اجتماعي سخي ومستدام، إذ تصل حصة الإنفاق الاجتماعي إلى نحو 30 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي في فنلندا والدنماك مثلًا، وهذا يتأتى من خلال ضرائب تصاعدية وشفافية مالية، فالضريبة العالية تجبى بثقةٍ لاحترام المواطنين لمبدأ إعادة التوزيع العادل، ونظافة وشفافية الإدارة العامة، ومن جهة أخرى تتمتع هذه الدول بسوق عمل يجمع بين الـمرونة والأمان (Flexicurity)، وهذا النظام يسهل تسريح العاملين من الشركات، لكن تقابله برامج تأهيلٍ ودعم سريع للعاطلين عن العمل، مما يحافظ على تنافسية الشركات وأمان العامل في آن معًا، واجتماعيا تعرف هذه الدول نتيجة التجربة القاسية مع المناخ البارد تعاونا وتكافلا فريدًا بين أفرادها، وفوق ذلك ساهم حجم السكان المتوسط، ونسب الفساد المنخفضة، والالتزام بدفع الضريبة في نجاح التجربة.
وفي ناحية الدول الأقل فسادًا فإن هذه الدول (الدنماك، فنلندا، النرويج، والسويد)، تعد ضمن أفضل 10 دول عالميًا من حيث نظافة القطاع العام وثقة الـمواطنين، وبخصوص النظام القضائي الذي يعد أحد أهم روافع نجاح الدول، فهو من أكثر الأنظمة كفاءة وسرعة ونزاهة في العالم، ويتميز بقدرات عالية على الفصل السريع في القضايا، خصوصًا في القضايا المدنية والتجارية، وأحيانًا في القضايا الجنائية البسيطة.
غالبية هذه الدول تتصدر العالم في السعادة حيث إن متوسط درجة السعادة لهذه الدول يفوق كثيرًا المتوسط العالمي. ومن الـمهم لدولنا العربية أن تدرس تجربة هذه الدول من مختلف الجوانب، وأعتقد أن مثل هذا النجاح ليس مستحيلاً، ولكنه يتطلب عملًا دؤوبا، وتغييرات بالعقلية الإدارية، وأسلوب حياة الناس، وطريقة تفكيرهم، وأسلوب تعاملهم مع دولهم.
من الـمهم أن تسود العدالة الاجتماعية والضمان الشامل الدول العربية، مع تنشيط سوق العمل، وترسيخ الحوكمة الرشيد، ومكافحة الفساد، وتحقيق الشفافية في مختلف مفاصل الحياة، والاستثمار في الإنسان، وجعل المواطن العربي يشعر بأنه جزء أساسي من اتخاذ القرارات، ويتجلل ذلك بسيادة مفهوم المواطنة الحقيقية القائمة على الإنجاز، واحترام القانون، والـمساواة التامة بغض النظر عن أي عوامل أخرى، ناهيك عن العدالة الضريبة، وبناء الثقة بين المواطن والحكومة، والاستثمار الحقيقي في البحث العلمي المنتج.
يستحق بلدنا الأردن ووطنا العربي الكبير الأفضل، ويحتاج الأمر إلى اتفاق الإرادات بين الشعوب، والحكومات، وتبني نموذجًا مدنيًا متكاملا، قائمًا على الديمقراطية الحقيقية المتدرجة، وإعادة بناء ثقافة منتجة قائمة على الصدق، والنظرة الإيجابية اتجاه الدولة، والمواطن، وهذا سيسرع من ولوجنا إلى عصر مليء بالإنجاز والسعادة.