الغد
من المسلّمات أن العرب يقفون في الإقليم موقف المتفرج. أكبر كتلة بشرية وجغرافية في الشرق الأوسط تنتظر أن ينجز الآخرون أعمالهم وتتعامل مع النتيجة –في الحقيقة لا «تتعامل» مع شيء بالمعنى الإيجابي. بل ثمة تجنيًا في استخدام كلمة «العرب» بالمعنى الذي يفهمه المؤمنون بالإمكانية العربية، كقومية. ثمة في الحقيقة 22 قُطرًا منفصلًا، غير متصل مع محيطه –المتجانس بالإمكان- ومعادٍ لجارِه أحيانًا، لا تمتلك الطموح – أو ليست لديها الإمكانية للطموح- إلى المشاركة في صنع مصائرها الخاصة. يحدُث هذا في محيط من القوى التي تتعامل مع نفسها وتعرض نفسَها كشخصيات قومية -على الأقل لضرورات فائدة الهوية القومية في «التحشيد حول العلَم»: تركيا الطورانية، إيران الفارسية، والكيان الصهيوني التوراتي.
ثمة في الأيام الأخيرة إعادة حسابات، تنتمي في أفضل الأحوال إلى رد الفعل الانعكاسي اللحظي الذي يصعب أن يندرج في أي سياق متساوق. يظهر ذلك من تخفيف اللهجة ضد إيران ومحورها وبعض الانتقاد للكيان الصهيوني، والإدانة العربية للهجوم على إيران. ولا يأتي هذا التحول من منطلق التقدير لإيران ومحورها، وإنما من منطلق إدراك متأخر لحقيقة أن سقوط إيران سيترك العرب وحيدين ومكشوفين أمام قوة طاغية وقاتلة بالجينات، لا تخفي رغبتها في إنجاز مشروع «إسرائيل الكبرى» من النيل إلى الفرات. وسوف تتفرغ هذه القوة لتوزيع الأدوار والوظائف والحصص في الإقليم، كما يفعل أي زعيم قرية مدجج بالمال والرجال أخضع كل العائلات بالقوة المفرطة وصفى كل مقاومة.
إذا كان عنوان الصراع الجاري الآن هو امتلاك سلاح نووي، فإن موقف العرب في هذا الصراع من أسوأ ما يكون. لا أحد منهم سعى – سرًّا، ولا علنًا- إلى امتلاك قدرة نووية، ولا بالستية، ولا مُسيراتية –أو حتى مسدساتية- بالإمكانيات الذاتية. لم يطالبوا بالحق الذي يكفله القانون الدولي في امتلاك برنامج نووي للأغراض السلمية. (تنص المادة الرابعة من «معاهدة انتشار الأسلحة النووية» للعام 1968 على أنه «لا يجوز تفسير أي شيء في هذه المعاهدة بما يمس حق جميع أطراف المعاهدة في تطوير الأبحاث النووية وإنتاج الطاقة النووية واستخدامها للأغراض السلمية دون تمييز»). لم يرفعوا صوتًا للمطالبة بـ»عدالة نووية» باستثمار المسألة الإيرانية، في اتجاه تجريد الكيان الصهيوني أيضًا من ترسانته النووية –أو ضمان حق الجميع في التخصيب.
كان موقف العرب من الملف النووي في الشرق الأوسط مزيجًا من ضبط النفس السياسي، والضغوط الدولية، والتحدث الخجول بأقل من الهمس عن فكرة «شرق أوسط خالٍ من الأسلحة النووية». لكنّ هذا الموقف وضع العالم العربي في وضع متناقض ومكشوف: من جهة يدعو –إذا فعل من الأساس- إلى نزع السلاح؛ ومن جهة أخرى يجد نفسه محاطًا بقوى نووية أو قادرة على امتلاك السلاح النووي، حيث الكيان يمتلك ترسانته، وإيران –حتى قبل بضعة أيام- مرشح آخر لامتلاك هذه القدرة.
لكنّ ترسانة الكيان غير المعلنة –وإنما المعترَف بوجودها على نطاق واسع- هي محور الخلل في التوازن الإقليمي. منذ الستينيات، يتخذ الكيان سياسة «الغموض النووي»، فلا هو يؤكد ولا ينفي امتلاكه للسلاح النووي. وقد مكّنته هذه السياسة من تجنّب الإدانة الدولية، مع الاستفادة من قوة ردع استراتيجية لا نظير لها في المنطقة. وقد كفّت الدول العربية منذ زمن عن المطالبة بانضمام الكيان إلى معاهدة عدم الانتشار النووي وفتح منشآته أمام التفتيش الدولي –حتى مع أن القوى الرئيسية ستعتبر أنها لم تسمع شيئًا.
على الجانب الآخر، وفّرت طموحات إيران النووية -عسكرية كانت أو مدنية- نوعًا من التوازن الاستراتيجي غير المباشر مع الكيان. ومنح تقدُّم إيران في هذا المجال شعورًا ما في الإقليم بأن قوة الكيان لم تعد مطلقة أو محصّنة. ومع خروج العرب –موضوعيًا- من المنافسة، ينسف استهداف الكيان الحالي للبرنامج النووي الإيراني هذا التوازن الهشّ. ومع تراجع هذا البرنامج أو تدميره، وغياب أي قدرة ردعية نووية –أو غير نووية- في العالم العربي، وإيران، يقف الكيان الآن بمفرده كقوة نووية مهدِّدة وحيدة في الشرق الأوسط، وهو الخطر الماحق والشر المستطير مجسدين على أمن العرب.
من باب الحقيقة، وعلى الرغم من خطاب «الخطر الإيراني» كطريقة لتبرير عدم فعل أي شيء لإنقاذ أطفال غزة من مذبحة الكيان باعتبار أهل غزة من «المحور الإيراني»، التزمت إيران ببنود «خطة العمل الشاملة المشتركة» منذ توقيعها في العام 2015 وحتى العام 2018. وخضعت خلال هذه الفترة لرقابة صارمة من «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» التي أكدت في تقارير متعددة امتثال طهران لتعهداتها، بما في ذلك تقليص عدد أجهزة الطرد المركزي، وخفض مخزون اليورانيوم المخصب، وتعديل مفاعل آراك لمنع إنتاج البلوتونيوم. وبذلك لم يعد برنامجها يشكل بأي حال خطرًا يقترب من خطر قنابل الكيان الجاهزة. ولم تتحلل إيران من هذا الالتزام إلا بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق في أيار (مايو) 2018 بقرار من دونالد ترامب بأوامر نتنياهو، وفرض عقوبات اقتصادية خانقة على الإيرانيين رغم اعتراف الجميع بالتزامهم السابق.
أول من أمس، كان ترامب يطلب في مؤتمر صحفي قدوم إيران مذعنة لتسليم برنامجها النووي، وقال إنه لن يسمح لأحد بامتلاك سلاح نووي. انتظرتُ أن يسأله صحفي: «وماذا عن إسرائيل»؟ لكنّ أحدًا لم يسأل، ولو أن الجواب المتوقع لو سُئل يغلب أن يكون: «إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها».
من العبث دعوة العرب إلى استخدام المال –حيث المال يجعل كل شيء ممكنًا- لامتلاك برامجهم النووية الخاصة بدلًا من الشكوى من امتلاك –ليس كل الآخرين- لها. وهو موقف يمكن تفسيره بأنه إذعان مُسبق، يغلب أن لا يحمي رأس أحد –إذا قرر أن يرفعه.