الأعباء الاقتصادية.. حينما تسرق راحة البال وتزرع القلق النفسي
الغد-رشا كناكرية
الراحة النفسية وهدوء البال هما ما تبحث عنه كل أسرة وتسعى لأن تعيشهما في تفاصيل أيامها، لكن الالتزامات التي تتبع بعضها بعضا تسرق منها هذه الطمأنينة، ومع ازدياد متطلبات الحياة وما تحمله من ضغوط وأعباء اقتصادية، بات الوصول إليها صعبا.
كثير من الأسر الأردنية وأبنائها ضحية للأعباء الاقتصادية والوضع المالي الصعب، والمتضرر الأكبر هو الصحة النفسية التي تهددها الاضطرابات والتوترات المستمرة. ويبقى السؤال: لماذا تسلبنا الضغوط المالية راحة البال؟ وكيف نحمي أنفسنا؟
من جانبه، يبين الاستشاري الاجتماعي الأسري مفيد سرحان، أن المال مهم في حياة الإنسان، فهو وسيلة تعينه على المعيشة وتلبية متطلبات الحياة، ومع ذلك يجب أن يدرك أنه وسيلة لا غاية، والأهم أن يفهم الإنسان أن المال ليس دائما مصدرا للسعادة، فهو أحيانا يساهم في تحقيقها، وأحيانا أخرى يكون سببا في المشكلات الأسرية والاجتماعية.
ويوضح سرحان أنه من حق الإنسان أن يسعى إلى العمل والاجتهاد في طلب الرزق وتحسين وضعه الاقتصادي، ولكن دون أن يكون ذلك على حساب صحته الجسدية والنفسية وعلاقته مع زوجته وأبنائه والآخرين.
ويشدد سرحان على أهمية أن يعتاد الأزواج على وضع ميزانية شهرية للإنفاق تراعي الأولويات وتبدأ من الاحتياجات الضرورية ثم الأقل أهمية فالأقل، بحيث تتناسب مع دخل الأسرة وباتفاق الزوجين، وأن تراعي هذه الميزانية الادخار قدر المستطاع للظروف الطارئة كالمرض وغيرها من المصاريف غير الثابتة.
وعلى الأسر الحرص على عدم الاستدانة أو اللجوء للأقساط إلا في الحالات الضرورية مع مراعاة امكانيات الأسرة في السداد، وفق سرحان، وكذلك الابتعاد عن الاسراف والتبذير والتقليد الأعمى للآخرين والانفاق غير المبرر وثقافة الاستهلاك التي تستهلك الموارد دون مبررات حقيقية.
ويشير سرحان إلى إن المشورة بين الأزواج ضرورية في كافة الأمور، ومنها المادية والتوافق على الانفاق يجعلهم أكثر تفهماً وإدراكا للواقع وقدرة على الصبر والتحمل والتعاون مع الآخر، فهي صفات ضرورية لنجاح الحياة الأسرية والتقليل من المشكلات والقناعة بأن المال وحده لا يجلب السعادة.
ويلفت إلى أن ترشيد الاستهلاك وتربية الأبناء على ذلك وسيلة مهمة لتقليل التكاليف، فالاعتدال والوسطية منهج حياة في كل الأمور بلا إسراف أو تبذير ولا تقطير أو شح وبخل في الإنفاق.
ويؤكد سرحان أن شيوع ثقافة الاستهلاك والتقليد الأعمى والاهتمام بالمظاهر وعدم القدرة على إدارة موارد الأسرة وغياب الالتزام بالضوابط الشرعية للانفاق أسباب رئيسة للديون.
الحكمة تتطلب الموازنة بين الموارد المالية للأسرة وبين الإنفاق حتى لا تغرق في الديون، إذ يتسبب ذلك في مشكلات أسرية واجتماعية متعددة تؤدي إلى عدم الاستقرار الأسري والاجتماعي، وهي مسؤولية الزوجين. وفق سرحان
وينوه إلى أنه في كثير من الحالات يكون المال سببا في الخلافات الزوجية، خاصة عندما ينظر الزوجين أو أحدهما إلى المال بأنه العنصر الأهم في حياته وأن قيمته أمام الآخرين بما ينفق من مال، أو عندما تكون الإمكانيات المالية للأسرة لا تكفي للإيفاء بالمتطلبات الأساسية للأسرة، وهنا لا بد من إدراك أهمية التفاهم بين الزوجين وتجنب الخلافات المالية لما لذلك من آثار سلبية على الأسرة.
ويرى بأن إدارة ميزانية الأسرة فن ومسؤولية ليس للزوجة وحدها بل هي مسؤولية جميع أفراد الأسر.
ووفقا لذلك يؤكد سرحان أنه مع تزايد الصعوبات الاقتصادية أصبح الكثير من العلاقات معرضة للفشل والمشكلات، فضلا عن بروز خلافات أسرية أثرت على بنية المجتمع والعلاقات الاجتماعية وعلى الاستقرار الأسري، لذلك يتطلب من الجميع الوعي بخطورة ذلك.
وفي ظل صعوبة تحكم الفرد في القدرة على زيادة الدخل الشهري، فإن المطلوب، إزاء ذلك البحث عن تغيير في العادات الاجتماعية وإعادة النظر في المصروفات الزائدة أو المبالغ فيها، وهذه مهمة الفرد والأسرة والمجتمع، ومن المهم تربية الأبناء على القناعة وعدم المبالغة في الأنفاق وأفضل وسائل التربية هي القدوة الحسنة من الآباء والأمهات.
وتربية الأبناء على مساعدة الآخرين من زملائهم وجيرانهم وأقربائهم من الفقراء، فذلك يجعلهم أكثر شعورا مع الآخرين وأكثر تقديرا لقيمة المال، والاستعداد للتحمل في حالة تغير الظرف الاقتصادية للأسرة.
ويذكر سرحان أن هنالك أسرا متوسطة الدخل أو فقراء، لكنهم استطاعوا إدارة مواردهم المالية على قلتها، ويشعرون بالراحة والطمأنينة والسعادة فالقناعة مهمة للإنسان ولها أثر نفسي كبير.
وفي المقابل، هنالك أسر لديها دخل مرتفع لكنهم لا يحسنون إدارة أنفسهم وهم دائمو الشكوى ويعانون من تراكم الديون ويشعرون بالقلق والاضطراب ولا يشعرون بالسعادة وهذا ينعكس سلبا على أبنائهم وعلاقاتهم مع الآخرين.
وبدورها تبين استشارية النفس الاسرية والتربوية حنين البطوش، أن هنالك علاقة وثيقة ومباشرة بين الضغوط الاقتصادية وتراجع الصحة النفسية داخل الأسرة، وهذا ما تشير إليه الدراسات والوقائع المجتمعية.
وتوضح أنها لا تقتصر على القلق العابر بل تتجسد في حالة ضغط مزمن بسبب تراكم الالتزامات المادية وتضخم المتطلبات الحياتية وفقدان الإحساس بالسيطرة.
وتشير البطوش إلى أنه مع ازدياد الديون والأقساط، وتحول بعض الكماليات إلى ضروريات اجتماعية اتسعت الفجوة بين الدخل والإنفاق، وهذا الأمر ولد شعورًا بالعجز والقلق وأثر على تماسك الأسرة واستقرارها النفسي.
ومن الناحية النفسية تشير البطوش إلى أن هذه الضغوط تخلف آثارًا عميقة منها القلق المزمن والصراع الزوجي، وتدني تقدير الذات وقد تصل للاكتئاب والعزلة الاجتماعية.
وتنوه أنها غالبا ما تمتد تداعياتها إلى الأبناء الذين يتأثرون بالبيئة الأسرية المتوترة أكثر من الأعباء المادية ذاتها، ويظهر ذلك في شكل اضطرابات سلوكية وضعف تركيز وحرمان عاطفي.
وقد وجدت دراسة استقصائية أجريت في الولايات المتحدة الأميركية نشرت في مارس/آذار 2022 وشملت أكثر من 3 آلاف بالغ أن 90 % من الذين شملتهم الدراسة أفادوا بأن المال كان مصدرا للتوتر بالنسبة لهم.
كما أفاد قرابة ثلثي المستجيبين بأنهم لا يستطيعون التغلب على الصعوبات المالية التي تتراكم، وأن 40 % لم يتخذوا أي خطوات لتأمين مستقبلهم المالي.
وتلفت البطوش إلى أن التعامل مع هذه الأعباء دون أذى نفسي، يجعل الأسر تحتاج إلى مقاربة مزدوجة تجمع بين التنظيم المالي والمرونة النفسية، ويتم ذلك عبر تعزيز الشفافية بين الزوجين وضبط التوقعات الاجتماعية والأهم فصل القيمة الذاتية عن الوضع الاقتصادي وتخصيص وقت نوعي للعائلة وطلب الدعم النفسي أو الاستشاري عند الحاجة.
وتذكر أنه في حال إهمال التعامل مع هذه الضغوط، فإنها تتحول إلى صدمة مزمنة تتجلى في اضطرابات نفسية وجسدية، وتفكك أسري، وتبنّي "عقلية الفقر" التي تزرع الإحباط واليأس، وقد تدفع بعضهم إلى سلوكيات هروبية كالإدمان أو الانسحاب الاجتماعي.
وتؤكد البطوش أنه لا يمكن النظر إلى الأعباء الاقتصادية بمعزل عن بعدها النفسي، مبينة أن التوازن المالي ليس فقط مسألة دخل وإنفاق، بل هو قضية صحة نفسية واستقرار أسري، تحدد نوعية حياة الأسرة وقدرتها على الصمود في وجه التحديات المتغيرة.
وتختم البطوش حديثها، بأن أي معالجة حقيقية لمشكلة الأعباء الاقتصادية وتراجع الصحة النفسية يجب أن تقوم على تكامل المحورين الاقتصادي والاجتماعي؛ فالدعم المالي وحده لا يكفي ما لم يُرافقه تمكين نفسي ومعرفي يساعد الأسرة على إدارة مواردها بوعي وثقة، فالاستقرار لا يتحقق بامتلاء محفظة الجيب فقط، بل أيضًا بطمأنينة القلب وراحة.