عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    10-Oct-2025

وهمُ المقاومة*فراس النعسان

 الدستور

لم تعد المقاومة فعلاً يولد من رحم الحقيقة، بل من رحم التأويل. غابت الفطرة الأولى التي كانت تجعل الإنسان يقف في وجه الطغيان لأنه إنسان، لا لأنه ينتمي إلى جهة أو شعار. صارت الكلمة تُستعمل كما تُستعمل الأقنعة، يضعها كلّ من أراد التجمّل، أو من أراد أن يشتري بها موقعًا في السوق السياسية.
في الماضي، كانت المقاومة تشبه المطر، تنزل بلا وسطاء، ويشرب منها كلّ من عطش إلى الكرامة. لم تكن مؤسسة ولا حزبًا، كانت وجدانًا جمعيًا يتنفسه الناس كما يتنفسون الأمل. كانت حكايةً تروى من الجد إلى الحفيد، ومن الشهيد إلى الفكرة، ومن الأرض إلى السماء. أمّا اليوم، فقد أُدخلت إلى المختبر، وقُسّمت إلى نسخٍ جينية، كلّ نسخةٍ منها تُستخدم في ظرفٍ يناسب مصلحةَ من يملك مفاتيح الخطاب.
لقد صارت المقاومة سلعة، تُعبّأ في بيانات، وتُعلّب في نشراتٍ مسائية، وتُعرض على الشاشات بديكورٍ محكمٍ ولغةٍ مُنمّقةٍ تخفي هشاشة المضمون. تحوّل الدم إلى مادةٍ إعلامية، وتحول الموقف إلى تغريدةٍ تُنسى بعد ساعة. صار كل شيءٍ قابلاً للتداول إلا الحقيقة، وصار الصوت الأعلى هو الأكثر زيفًا.
كان المقاوم في الأمس ينام على رصيف الخوف ويصحو على رائحة الخبز والبارود، لكنه كان يعرف لماذا يقاتل، ومن أجل من. أمّا المقاوم في الحاضر، فكثيرًا ما يقاتل ضدّ ظله، ويُطلق الرصاص على المرايا. لقد تداخلت الجبهات، حتى لم نعد نعرف أين يقف العدو وأين يقف الصديق، لأنّ الجميع يتحدث لغة واحدة، لكنّ القلوب متنافرة كالكواكب البعيدة.
وما زاد المشهد التباسًا أنّ الهوية نفسها باتت تذوب في محيطٍ من الشعارات، حتى غدت الأوطان مجرد جغرافيا مؤقتة، والذاكرة مجرد برنامجٍ وثائقي يعاد بثّه كلما دعت الحاجة. ما عاد الناس يؤمنون بالتحرير قدر ما يؤمنون بالفرجة عليه، كأن المقاومة أصبحت عرضًا مسرحيًا طويلًا يُصفّق له الجمهور قبل أن يعود إلى نومه العميق.
كانت المقاومة، في جوهرها الأول، رفضًا مطلقًا للعبودية. كانت صرخةَ وعيٍ قبل أن تكون صرخةَ سلاح. واليوم، بعد أن دخلت أسواق السياسة، صارت تُقاس بعدد المؤتمرات، لا بعدد الشهداء. لقد تحولت إلى هويةٍ بلا وعي، وإلى ذاكرةٍ بلا حرارة، وإلى نصٍّ بلا مؤلف. ومن يراقب المشهد يرى كيف تتراجع القيم الكبرى أمام المصلحة، وكيف يُختزل الوطن في شعارٍ يُرفع حين يُطلب، ويُخفَض حين تتغير الرياح.
لقد نُزعت القداسة عن الفعل المقاوم حين صار أداةً للابتزاز أو وسيلةً للتبرير. والمأساة ليست في من يستخدم اسم المقاومة، بل في من صدّق أن الاسم يكفي ليُقيم المعنى. في زمنٍ كهذا، يصبح الشعار أعلى من الحقيقة، والراية أثقل من الدم، وتغدو اللغة نفسها نوعًا من النفاق المتقن، تُغطي الفراغ الروحي الذي خلّفه غياب الوعي.
ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من المقاومات، بل مقاومةً واحدة صادقة تبدأ من داخل الإنسان، من تلك النقطة الغامضة التي يسكنها الضمير. لأن الوعي هو أول جبهةٍ تُقصف، والكرامة هي آخر أرضٍ يجب أن تبقى واقفةً في الذاكرة. فحين تسقط الكرامة، يصبح كل سلاحٍ بلا معنى، وكل خطابٍ بلا روح.
المقاومة التي نحتاجها لا تُرفع في الشوارع، بل تُزرع في الوعي. هي التي ترفض أن تُختطف باسم الدين أو القومية أو المذهب، وتصرّ على أن الإنسان هو القيمة العليا التي تُبنى عليها كل القيم. إنها مقاومة ضد التزوير، ضدّ تشويه الذاكرة، ضدّ الخضوع الناعم الذي يكسو نفسه بلغة البطولة.
وفي المستقبل، قد لا تكون المقاومة في شكلها التقليدي؛ لن تكون سلاحًا يُطلق، ولا جبهةً تُرسم على الخريطة. ستكون فكرةً تسكن العقول الحرة، وموقفًا يرفض أن يُصاغ بالريموت السياسي. ستكون مقاومة الوعي في وجه التزييف، ومقاومة الكلمة في وجه الإغراق بالضجيج.
سيكون المقاوم الحقيقي هو من يكتب الحقيقة في زمنٍ يمنعها، ومن يرفض أن يتورّط في كراهيةٍ مصنوعةٍ في مصانع الإعلام. سيقاوم من يزرع الوعي في زمن الخداع، ومن يؤمن بأنّ الحرية لا تُستعار، بل تُولد كما يولد الضوء من الظلمة.
إن أخطر ما يواجه الوجود الإنساني اليوم ليس الاحتلال العسكري، بل الاحتلال الذهني، حين يُعاد تشكيل الشعوب لتخدم أعداءها وهي تظن أنها تقاومهم. ذلك هو الوهم الكبير: أن نحسب المقاومة مجرّد ردّ فعلٍ، بينما هي في الأصل فعلُ وعيٍ خالص.
حين نفقد هذا الوعي، نصبح مجرّد أدواتٍ في يد التاريخ، لا صُنّاعه. أمّا حين نستعيده، فكلّ حجرٍ في الأرض يصبح جبهة، وكلّ كلمةٍ صادقةٍ تصبح سلاحًا.
 
المقاومة ليست ماضٍ يُحنّ إليه، ولا بطولةً تُعلّق على الجدران. إنها الحاضر الدائم في ضمير من لم يُسلم وعيه للغيبوبة. وما لم نستعد هذا الضمير، سنبقى نقاوم ظلالنا، وننتصر في الخطاب بينما نخسر في الواقع.
 
فالحرب لم تنتهِ، لكنها غيّرت ملامحها. العدو لم يختفِ، لكنه لبس ثوب الصديق. والمقاومة لم تمت، لكنها تنتظر أن نعيد إليها معناها الأول: أن نقول «لا» حين يصبح الصمت دينًا، وأن نحافظ على بقاء الوعي مضيئًا في زمنٍ تُطفأ فيه العقول كما تُطفأ الأنوار في آخر الليل.