الدستور
«النبوءة لا تلغِي العقل، بل تُكمله بما لا يستطيع العقل وحده إدراكه»، توماس الأكويني.
في خضم الأحداث الجارية في غزة، يستغرق كثير من المتخصصين والهواة - وحتى أدعياء المعرفة - في ربط الآيات والنبوءات بما يشهده العالم من صراعات. أتابع هذه المحاولات دون انحياز لأي منها، لكن نبوءة أخنوخ لفتت انتباهي بشكل خاص، فأردت أن أشاركها معكم.
تَظهر نبوءة أخنوخ في سفر منسوب إليه، دُوِّن عبر فترات زمنية متفاوتة امتدت من عام 300 قبل الميلاد حتى عام 50 ميلادي. اكتشف الباحثون أجزاء من هذا السفر ضمن مخطوطات قمران الشهيرة بالقرب من البحر الميت، والتي يُرجح أنها تعود للفترة بين 200 و50 قبل الميلاد. كما عُثِر على نسخة أخرى محفوظة في إحدى الكنائس الحبشية، يُعتقد أنها كُتبت بين عامي 150 و170 قبل الميلاد.
أخنوخ، الذي يُعرف في التراث الإسلامي باسم نبي الله إدريس -عليه السلام- هو سابع أحفاد آدم، عليه السلام. يُنسب إليه في التراث أنه أول من استخدم القلم في الكتابة وأول من خاط الثياب. في رؤياه النبوية، يقسم مسار التاريخ والمستقبل إلى عشر حقب زمنية، يطلق عليها «الأسابيع»، تنتهي كل منها بحدث جوهري يعيد تشكيل مسيرة البشرية.
الأسبوع الأول: عصر العدالة والفطرة
«وُلِدتُ السابع في الأسبوع الأول، وفي عهدي ساد العدل والحق».
تمثل هذه الحقبة الفترة الممتدة من آدم -عليه السلام- حتى نوح -عليه السلام- وتتميز بسيادة الفطرة السليمة والعدالة في الأرض. يُقدر الباحثون هذه الفترة بين عامي 4000 و3000 قبل الميلاد.
الأسبوع الثاني: ظهور الفساد والطوفان
«وبعدي، في الأسبوع الثاني، سيزدهر الكذب والعنف، وعندها تكون التتمة الأولى».
شهدت هذه المرحلة بروز الفساد في الأرض، وبلغت ذروتها بالطوفان العظيم الذي طهّر الأرض. تُقدر هذه الفترة بين عامي 3000 و2500 قبل الميلاد.
الأسبوع الثالث: بعثة إبراهيم عليه السلام
«عند اكتمال الأسبوع الثالث، يُنتخَب إنسان ليكون غرسة قضاء».
تُشير هذه المرحلة إلى بعثة النبي إبراهيم -عليه السلام- ودعوته للتوحيد، والتي مثّلت نقطة تحول جديدة في تاريخ البشرية. تُقدر هذه الفترة بين عامي 2500 و2000 قبل الميلاد.
الأسبوع الرابع والخامس: عهد موسى وأنبياء بني إسرائيل
«في نهاية الأسبوع الرابع، ستُمنح رؤى للقدّيسين والأبرار، ويُعطَون ناموسًا وحظيرة».
تتجلى هذه النبوءة في بعثة النبي موسى -عليه السلام- ونزول التوراة على بني إسرائيل، حيث تمثل الشريعة المنزلة نقطة تحول في تاريخ البشرية الروحي. يمتد تأثير هذه المرحلة إلى الأسبوع الخامس، الذي يشهد ازدهار عصر أنبياء بني إسرائيل وربما يشمل فترة السبي البابلي كاختبار إلهي. تمتد هذه الحقبة المزدوجة من عام 2000 إلى 1000 قبل الميلاد.
الأسبوع السادس: المسيح والدمار الأول
«سيُصاب سكانه بالعمى، وتنسى قلوبهم الحكمة، لكن في هذا الزمن يصعد إنسان إلى السماء. وعند اكتمال الأسبوع، يلتهم بيت الملك الحريق، ويتشتّت نسل الجذر المختار».
تصف هذه النبوءة بوضوح مذهل بعثة المسيح عيسى عليه السلام ورفعه إلى السماء، يتبعها تدمير الهيكل الثاني في القدس وتشتت بني إسرائيل عبر أصقاع الأرض. تكتمل أحداث هذه المرحلة في القرن الأول أو الثاني الميلادي، مؤذنة بنهاية عهد وبداية آخر.
الأسبوع السابع: عصر الرسالة الخاتمة
«يظهر جيلٌ ضالّ يكثر من الفساد. وفي نهايته، يختار الله الأبرار شهودًا للحق، من نبتة البرّ الأبدي، فيُمنحون حكمةً ومعرفة سبعة أضعاف ما لدى الخليقة. وبهم تُقتلع جذور الإثم وأعمال الكذب».
تنطبق هذه النبوءة بدقة مذهلة على بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم والحقبة الذهبية للخلافة الراشدة. فقد جاء الرسول الكريم خاتمًا للأنبياء، حاملًا مشعل الحق في عصر غارق في ظلمات الجاهلية، محققًا تحولًا جذريًا في المسار الروحي والحضاري للإنسانية.
تحمل النبوءة أوصافًا استثنائية لا تنطبق إلا على شخص الرسول الكريم، كالإسراء والمعراج إلى السماوات العلى، والإحاطة الشاملة بأطراف الأرض وعرض السماء، والقدرة الفائقة على تحمّل ثقل الوحي الإلهي. تنتهي هذه المرحلة المحورية حوالي عام 1000 ميلادي.
الأسبوع الثامن: عصر التمكين والجهاد
«فيه يُعطى سيفٌ للأبرار ليُتمّوا الحساب العادل على الكفار، فيُسلَّمون لأيديهم».
يمثل هذا الأسبوع امتداد الحكم الإسلامي ومرحلة الدفاع عن الحق وتثبيت أركانه في الأرض. تشهد هذه الحقبة محطات تاريخية حاسمة كمواجهة غزوات المغول والتتار، والصمود أمام الحملات الصليبية، حيث يبرز دور المسلمين كحماة للحق في مواجهة قوى الباطل. تمتد هذه المرحلة حتى حوالي عام 1700 ميلادي.
الأسبوع التاسع: عصر الظلم الأخير والخلاص الموعود
«فيه يُكشف البر وتُقام الدينونة العادلة لجميع البشر، ويُباد عمل الأشرار ويُلقى في الهاوية».
يرمز هذا الأسبوع إلى حقبة تاريخية استثنائية يبلغ فيها الظلم العالمي ذروته تحت راية الصهيونية وأذنابها، في تمهيد إلهي لظهور المهدي المنتظر ونزول المسيح عيسى عليه السلام. في هذه المرحلة الحاسمة، يُرفع الظلم من جذوره، وتُقام العدالة الإلهية على أنقاض الطغيان، مؤذنة ببزوغ فجر عهد جديد يسوده السلام والخير للبشرية جمعاء.
الأسبوع العاشر: الدينونة الكبرى والميلاد الجديد
«في جزئه السابع تتم دينونة العالم العظمى وسط الملائكة، ويمضي القديم وتُولد سماء جديدة».
تشهد هذه المرحلة الأخيرة الدينونة الكونية الكبرى بحضور الملائكة، حيث ينقضي النظام العالمي القديم لتولد سماء جديدة وأرض جديدة. وبعدها تتوالى أسابيع لا تُحصى، كلها خير مطلق وبر خالص، في إشارة واضحة إلى الخلود في نعيم أبدي تسوده العدالة المطلقة والرحمة اللانهائية والسلام السرمدي.
ترسم هذه النبوءة العجيبة مخططًا زمنيًا شاملًا يبدأ بآدم عليه السلام في فجر البشرية، يتبعه السقوط الأخلاقي العظيم والطوفان المطهر، ثم تتوالى بعثات الأنبياء كالجواهر المضيئة في ظلمات التاريخ: إبراهيم خليل الرحمن، فموسى كليم الله، فبناء الهيكل وما أعقبه من انحراف، ثم بعثة المسيح عيسى ابن مريم، وأخيرًا خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
نعيش اليوم في خضم مرحلة الفساد العالمي المتفاقم، التي ستعقبها عودة المسيح عليه السلام وانتشار السلام الشامل، ثم نهاية العالم كما نعرفه - والتي قد تكون، كما يشير بعض المفسرين، كارثة نووية شاملة تطوي صفحة التاريخ البشري.
يستنبط خبراء تفسير هذه النبوءات، استنادًا إلى تسلسل الحقب والأسابيع الرمزية وترتيب الأحداث ومعالم النهاية، أن نزول المسيح عيسى عليه السلام لن يتجاوز عام 2220 ميلادي، مما يضعنا في مرحلة حرجة من التاريخ الإنساني.
ما يستوقفني في هذه النبوءة العميقة أنها تكشف عن قانون تاريخي ثابت: كل طغيان يبلغ مداه في هذا العالم يعقبه حتمًا حدث تصحيحي يعيد التوازن الكوني إلى البشرية.
شهد القرن العشرون حربين عالميتين مدمرتين أزهقتا أرواح أكثر من أربعين مليون إنسان، تبعتهما عشرات الصراعات الدموية في كل قارة. واليوم، وشهدنا عدوانًا وحشيًا شاملًا على غزة مورست فيه الإبادة الجماعية بوقاحة لم يشهد التاريخ لها مثيلًا، وسط تأييد سافر ومكشوف للمعتدي من قوى عظمى تدّعي الحضارة.
لقد رأينا كيف سقطت أقنعة العدالة المزيفة، وانكشفت المعايير المزدوجة للنظام العالمي، وافتُضح البهتان أمام مليارات الشهود عبر شاشات العالم. لكن هذا الظلم الطاغي، كما تؤكد سنن التاريخ ونبوءات الأنبياء، لن يدوم طويلًا - فالفجر آتٍ لا محالة، والعدالة الإلهية لا تنام.