عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    30-Jul-2025

ملف الجسر*محمد أبو رمان

 الدستور

مرة أخرى، تعود أزمة جسر الملك حسين إلى الواجهة، وتفرض نفسها بوصفها واحدة من أكثر القضايا إلحاحاً في العلاقة اليومية بين الأردن والفلسطينيين، لا من زاوية المعاناة الإنسانية فقط، بل كملف سياسي واستراتيجي يعكس الكثير مما يجب أن يُقال ويُفكر فيه. فالمشهد يتكرر كل صيف، لكن هذه المرة أخذ أبعاداً أكثر صعوبة وقسوة مما جعل مسألة القدوم والمغادرة للفلسطينيين عبر الجسر بمثابة رحلة من العذاب، من ازدحام خانق ونفاد تذاكر وعائلات عالقة، والسوق السوداء التي تتغذى على حاجة الناس.
جسر الملك حسين هو الشريان الوحيد الذي يربط الفلسطينيين بالعالم الخارجي؛ في واقع تفرض فيه إسرائيل حصاراً خانقاً على الضفة الغربية، وتعزلها عن محيطها العربي، وتغلق كل نوافذ التنفس، يصبح الجسر مساحة وجود، ومتنفساً حيوياً، بل أداة صمود. حين يتم تعطيل هذا الشريان أو تركه يترنح تحت ضغط المواسم والطلب المتزايد، فإن النتيجة لا تكون فقط تكدساً على المعبر، بل اختناقاً حقيقياً في حياة الناس، وربما شعوراً باليأس والانقطاع، وضغوطاً تؤدي إلى الهجرة إلى بلاد أخرى، وهذا هو الهدف الأخير لليمين الإسرائيلي.
إسرائيل، في كثير من الأحيان، تسعى إلى تعقيد الإجراءات من الطرف الآخر للجسر، وافتعال العرقلة، وخلق بيئة ضغط وتوتر على المسافرين، كل ذلك يُستخدم كوسيلة ضغط سياسي أو كرسالة ضمنية، وفي أحيان كثيرة يتم التملص من المسؤولية، لتُرمى الكرة في ملعب الأردن.
الأردن ليس محايداً في هذه المعادلة، ولا يمكن أن يظل أسير الحلول الإجرائية أو التعديلات الوقتية. ما هو مطلوب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، هو إعادة نظر شاملة في ملف الجسر، لا بوصفه ممراً حدودياً، بل كمساحة استراتيجية يجب أن تُعامل بمفهوم جديد كلياً، يعكس المعنى الرمزي والسياسي والإنساني لهذا المعبر، ويفتح الباب لتطوير المرافق والخدمات بصورة جذرية.
ليس الحديث هنا عن تحسينات سطحية، بل عن بنية تحتية جديدة، وإجراءات متطورة، وتفكير غير تقليدي في كيفية تحويل الجسر من عبء إلى فرصة. فهنالك إمكانيات واسعة يمكن أن يُفتح فيها المجال للقطاع الخاص للاستثمار في مرافقه – مطاعم، خدمات، مناطق انتظار لائقة – تخفف من وطأة الانتظار، وتحول المرور إلى تجربة أكثر إنسانية. هذا ليس ترفاً، بل ضرورة، لأن الصورة التي تنطبع في ذهن الفلسطيني العابر لا تقتصر على شكل المبنى أو زمن الانتظار، بل تتجاوز ذلك إلى كيفية فهمه لدور الأردن وموقعه من قضيته.
ولأن هذا الجسر يربط بين مصيرين لا يمكن فصلهما، فإن أي تحسن في ظروف العبور يعزز من فرص بقاء الفلسطيني على أرضه، ويشجع المغتربين منهم في الشتات على زيارة بلدهم، وربما التفكير في العودة المؤقتة أو الاستثمار فيه. وكل ذلك، في جوهره، فعل مقاومة، وفعل دعم لصمود إنساني واقتصادي واجتماعي، يعزز من وجود الفلسطيني في مواجهة مشروع استيطاني لا يترك مساحة للعيش الكريم.
في المقابل، فإن الأردن سيكسب على أكثر من صعيد: صورة إيجابية تتعزز في الوعي الفلسطيني، دور إقليمي فاعل أكثر حضوراً، وعجلة اقتصادية يمكن تحريكها في محيط الجسر عبر تنمية المجتمعات المحلية وتوسيع فرص العمل والاستثمار. وحتى في بعد العلاقات بين الشعبين، فإن تحسين ظروف الجسر سيكون رسالة غير مباشرة لكنها عميقة: أن الأردن لا يزال يعتبر هذه العلاقة أولوية، لا تُختزل في خطاب سياسي أو بيانات رسمية، بل تُترجم إلى تجربة يومية يلمسها العابرون بأنفسهم.
من خلال اللقاءات المتكررة التي يعقدها معهد السياسة والمجتمع مع نخبة من القيادات السياسية والشبابية في الضفة، يتكرر طرح ملف الجسر كقضية مركزية. ما يقال هناك، ويُعاد تأكيده كل مرة، هو أن هذا المعبر يمثل مقياساً يومياً لكيف ينظر الفلسطينيون إلى الأردن، وكيف تتشكل لديهم تلك الصورة الرمزية التي لا تصنعها المواقف الكبرى وحدها، بل التفاصيل الصغيرة التي تسهم بدرجة كبيرة في بناء إدراك حقيقي وصحيح عن مستوى العلاقة بين الشعبين.