عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    02-Oct-2025

المترجمون تحت غزو الآلات..!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

قصد “اليوم العالمي للترجمة”، الذي صادف أول من أمس، أن يكون لحظة تكريم لأصحاب الحرفة المضنية: التوسط لجلب الفهم ونقل المعنى بين اللغات. لكنّ المناسبة تأتي بينما تواجه هذه المهنة، التي لطالما اعتُبرت موضعًا للدقة الإنسانية والحساسية الثقافية، تحديًا جديدًا ربما يكون الأصعب على الإطلاق. لقد تسللت الآلات والذكاء الاصطناعي إلى مناطقها، وهي تصادر أراضٍ جديدة باطراد وتهدد ساكنيها في سبل عيشهم نفسها.
 
 
بحسب مقال نُشر في صحيفة “الغارديان” العام الماضي، أظهر مسح أجرته “جمعية المؤلفين البريطانية” أن 63 في المائة من المترجمين المشاركين أبلغوا أنهم فقدوا أعمالاً لصالح أنظمة الذكاء الاصطناعي. وقال 43 في المائة أن دخولهم تراجعت بسببه أيضًا، بينما توقع 77 في المائة أن يؤثر الذكاء الاصطناعي على دخولهم المستقبلية.
وفي استطلاع أجرته هذا العام شركة “أكولاد” الفرنسية التي تعمل في الترجمة، أعرب 53 في المائة من اللغويين المستطلعين عن مخاوف جدية بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي على المهنة، وتوقع 84 في المائة منهم انخفاض الطلب على الترجمة البشرية، مع تزايد الطلب على خدمات “تحرير ما بعد الترجمة”. وتؤكد تقارير صحفية ومقالات تحليلية كثيرة على اتجاه يبلغ فيه مزيد من المترجمين المستقلين والمحترفين عن انخفاض الطلب على عملهم أو انخفاض الأسعار/ الدخل، مع انتشار أدوات الترجمة الفورية والكتابية، وتحول العملاء إلى الترجمة الآلية – تليها مراجعة بشرية. وبذلك، قد يتحول المترجمون المحترفون الذين يمتلكون مهارات تحريرية إلى مُراجعين لترجمات الآلات.
لكنّ ثمة سؤالًا يطرحه اللغويون النظريون على أنفسهم وعلى المترجمين الممارسين: هل بلغ الذكاء الاصطناعي، بما وصل إليه من تطور الآن، حدًّا يستطيع معه التقاط الفروق الدقيقة، والعاطفة، والسياق الثقافي الخاص، المندغمة في بنية اللغة البشرية، بما ينبغي من الدقة؟
لا جدال في أن الترجمة الآلية قطعت أشواطاً في تسريع الفهم عبر لغات لا تُحصى. لكنها ما تزال مقيدةً بشكل أساسي باعتمادها على الأنماط، والاحتمالات، والبيانات القَبلية، وليس على التجربة المعيشة والحدس، أو الفهم السياقي. في النهاية، لا تكتفي الكلمات بحمل معنى معجمي جامد بقدر ما تحمل أيضًا التاريخ، والعاطفة، والسياق الاجتماعي. والفرق بين الترجمة الحرفية والترجمة الواعية ثقافيًا دقيق، ينبغي تعقبه في النبرة، وباطن النص وإلماحاته، والأسلوب -وهي خصائص يصعب حتى على أكثر الخوارزميات تطوراً إعادة إنتاجها بما يكفي من الاتساق.
تستطيع نماذج الترجمة الآلية العصبية معالجة مجموعات هائلة من النصوص في طرفة عين تقريبًا -حرفيًا. يمكنها أن تتعلم الأنماط النحوية، وأن تقترح بدائل سياقية، وكثيرًا ما يكون نتاجها مثيرًا للإعجاب. وإذا كان الأمر يتعلق بتوظيفها لأغراض عملية -ترجمة كتيبات التعليمات، أو رسالة بريد إلكتروني أو مراسلات روتينية- فإن هذه الأدوات تعمل بكفاءة، وتتيح سهولة في الوصول لم يكن يمكن تصورها قبل بضعة عقود. 
لكن الأمر يختلف عندما يتعلق الأمر بالأدب، وإلى حد كبير بالنصوص القانونية، أو البيانات السياسية. في كل هذه الضروب تحمل كل كلمة طبقات من المعنى، ويمكن لسوء التفسير أن يغير الكثير. في التعامل مع مثل هذه النصوص لا ينفع أن يكون المترجم وسيطًا آليًا معطَّل العاطفة. ينبغي أن يكون مُبدعًا مشاركًا، منخرطًا في استبطان النص وتأويله –مع ذلك من دون أن يتطفل عليه أو يملي عليه. وبعد ذلك يستخدم زاده اللغوي وإبداعه التعبيري لإبقاء ما هو فنيّ فنيًا وإبداعيًا بقدر الطاقة. وهذه وظيفة يلزم للذكاء الاصطناعي حتى يؤديها، بالإضافة إلى العقل، روحًا حية حساسة للمعنى وموسيقا اللغة والاختيار بين مترادفات. إنه أشبه بالاختيار بين حيادية ومعدنية شيء مثل “جادك المطر إذا المطر نزل”، وانحياز وحيوية “جادك الغيثُ إذا الغيثُ همى”.
من عجيب المفارقات أن عمل المترجمين البشريين أنفسهم هو المادة الأساسية لتعليم الذكاء الاصطناعي، حيث ترجماتهم عالية الجودة تزوّد نماذج التعلّم الآلي بالبيانات المرجعية التي تحتاجها لتعلّم كيف تتطابق اللغات واحدتها مع الأخرى. وعندما تتم تغذية الأنظمة بكميات هائلة من النصوص المترجمة باحتراف إلى مختلف اللغات، تحلل الخوارزميات أنماط المعنى والتركيب والأسلوب عبر تلك اللغات. وتمنح هذه الترجمات البشرية للذكاء الاصطناعي معياراً ذهبياً يقيس عليها أداءه، ويقوم بتحسين توقعاته ورفع دقة منتجاته. هكذا يوفّر عمل المترجمين الذكاء الثقافي واللغوي والسياقي الذي تعجز الآلات عن إنتاجه لنفسها بنفسها -حتى لو كانت التقنية الناتجة ستنافس المهنة وتهاجمها. ويبدو الأمر أشبه بتلميذٍ تُدربه، ويجمع الخبرة منك ومن غيرك حتى وظيفتك ويجلسك في البيت. وبحسب “الغارديان”، يرغب المترجمون المتضررون في بريطانيا، من بين آخرين، “في الحصول على تقدير أو تعويض عند استخدام أعمالهم في تطوير أدوات الذكاء الاصطناعي المُولِّدة”. في الحقيقة، لا أعرف كيف سيعرفون متى وكيف وأين استُخدم عملهم في تدريب الذكاء الاصطناعي وممن يطلبون التعويض!
أيا يكُن، يبدو من غير المرجح أن يكون مستقبل الترجمة مجرد استبدال بسيط للخبرة البشرية بالآلات. ربما يكون ما يحدث مجرد إعادة هيكلة للأدوار. قد يجد المترجم نفسه يعمل مع الذكاء الاصطناعي كشريك أو مساعد، يستفيد من سرعته واتساقه، لكنه يحتفظ بملكَة الحُكم، والمعرفة الثقافية والإبداع ويستخدمها لضمان جودة المعنى واحترام السياق. ربما يكون هذا النموذج الهجين هو شكل الترجمة الجديد، حيث المترجم أقرب إلى محرر يراجع النص الذي أنتجته الآلة ويراقب جودته، ويتدخل حيث يلزم لتحويل المنتج الآلي إلى شيء مفهوم، دقيق، إنساني وحساس ثقافيًا.
بعد كل شيء، قد لا يكون الذكاء الاصطناعي إعلانًا عن نهاية المهنة العريقة. ربما يوسع نطاقها فحسب. ربما يتيح للمترجمين تخصيص الجهد والوقت للتركيز على المهام التي تتطلب ملَكات تأويلية وإبداعية وروحانية رفيعة المستوى، بينما يترك الأعمال الروتينية أو الصياغية للروبوتات والخوارزميات. ربما!