عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    14-Dec-2025

حين يُستبدل التاريخ بالهندسة السياسية «الشرق الأوسط الجديد»*أ. د. هاني الضمور

 الدستور

منذ سنوات، تتكاثر الدراسات التي تتحدث عن «شرق أوسط جديد» تُعاد صياغته بقرارات خارجية، وتُرسم خرائطه في غرف مغلقة، وتُعجن دوله على يد القوى الكبرى. ورغم أن هذه الدراسات تكتسب حضورًا إعلاميًا لافتًا، فإنها من منظور علمي وتاريخي تعاني في جوهرها من مشكلة بنيوية: إنها تُقدّم تفسيرًا سهلًا لعالم بالغ التعقيد، وتتعامل مع التحولات العميقة في المنطقة كما لو أنها نتاج خطة مُحكمة، لا نتيجة قرون من التغيرات الحضارية والاجتماعية والسياسية.
المشكلة الأساسية في هذا النوع من التحليل أنه يستبدل علم التاريخ بـ «الهندسة السياسية»، فيحوّل ظواهر مركّبة   تمتد جذورها من العصور الإمبراطورية إلى اقتصاد النفط إلى الدولة الوطنية الحديثة   إلى حكاية خطية تُختصر في فاعلين خارجيين وتحالفات راهنة. هكذا تختفي الشعوب من المشهد، ويغيب دور المجتمع، ويُهمل المسار الطويل الذي تشكّلت عبره دول المنطقة وهويّاتها السياسية. لا يعود الشرق الأوسط نتاج تفاعلات حضارية ممتدة، بل ساحة شطرنج محكومة بيد لاعب واحد. وهذا ليس علمًا ولا تحليلًا رصينًا؛ بل تبسيط يطمس التاريخ لحساب خطاب سياسي آني.
إن قراءة المنطقة من منظور حضاري تُظهر بوضوح أن ما يجري منذ 2011 ليس لحظة تأسيسية لشرق أوسط «مصنوع» في الخارج، بقدر ما هو فصل متأخر من عملية تحوّل بدأت مع انهيار الإمبراطوريات القديمة، واستُكملت في القرن العشرين عبر الدولة المركزية الحديثة، وتُستكمل اليوم تحت ضغط التكنولوجيا والاقتصاد والتحولات الديموغرافية. فالاضطرابات ليست وليدة مؤامرة عابرة، بل نتيجة تراكمات تاريخية طويلة: تضخم المدن، تآكل المؤسسات، فقدان الثقة الاجتماعية، مأزق الاقتصاد الريعي، تغير البنى القيمية، وصعود أجيال جديدة لا تتحدث لغة السلطة القديمة. هذه العوامل ليست هوامش كما تصوّرها الدراسات السطحية، بل هي المتغيرات التي تُعيد تشكيل المنطقة بعمق يفوق أي تدخل خارجي.
كما أن اختزال الأحداث في دور القوى الكبرى يتجاهل حقيقة أن الحضارات عبر التاريخ لم تسقط بسبب الغزو وحده، بل كانت تنهار من الداخل قبل أن يطرق الغريب الباب. الخارج يضغط، نعم، لكنه يستثمر فراغًا نشأ محليًا، وضعفًا بنيويًا سبق وجوده بسنوات طويلة. هنا يظهر الخلل في سردية «المشروع الخارجي»: فهي تمنح الآخرين قدرة أسطورية وتنزع عن المجتمعات قدرتها على الفعل، وترى التاريخ مجرّد نتيجة خطط مرسومة وليست عملية متغيرة لا يمكن التنبؤ بها.
الأخطر أن بعض هذه الدراسات لا تكتفي بالسطحية، بل تبدو أحيانًا جزءًا من خطاب سياسي يروّج لرؤية مخصوصة للمنطقة، رؤية قد تخدم مصالح جهات بعينها، سواء عبر تضخيم الخطر أو تقزيم الذات أو إعادة إنتاج حالة عجز مستمر. وعندما تُنشر مثل هذه القراءات تحت لافتة «بحث علمي»، فإنها لا تُضلل القارئ فقط، بل تُشوّه الفهم العام لطبيعة التحولات التاريخية، وتحرم المجتمعات من القدرة على قراءة نفسها خارج ثنائية «الضحية/الفاعل الخارجي».
من الضروري اليوم استعادة المقاربة التي تنظر إلى الشرق الأوسط من زاوية أعمق: المنطقة ليست مادة أولية يعاد تشكيلها بإجراءات فوقية، بل فضاء حضاري يتفاعل مع موجات التغيير العالمية وفق خصوصياته. تحولات السلطة ليست سوى نتيجة لتغيرات أوسع في المعرفة والاقتصاد والقيم والثقافة. وما يبدو «مشروعًا سياسيًا خارجيًا» هو غالبًا مجرد محاولة للتكيف مع مسار تاريخي أوسع يفرض منطقه على الداخل والخارج على حد سواء.
على المراكز البحثية أن تتحمّل مسؤولية أعلى في إنتاج قراءة علمية تُنصف التاريخ وتستعيد دور الإنسان والمجتمع، لا أن تكتفي بإعادة تدوير سرديات جاهزة تُرضي التمويل وتُغذّي العناوين المثيرة. فالمعرفة ليست بيانًا سياسيًا، ولا واجهة لمشاريع غير معلنة، بل جهد لفهم الحقيقة كما هي، لا كما يريدها اللاعبون الكبار.
إن الشرق الأوسط لا يُعاد تشكيله اليوم بقدر ما يُعاد اكتشافه. وما نراه ليس ولادة خريطة جديدة بقدر ما هو كشف لطبقات عميقة من التحول الحضاري الذي تأخرنا طويلًا في فهمه. والتاريخ   بخلاف ما تقترحه هذه الدراسات السطحية   لا يُكتب في العواصم الكبرى وحدها، بل في المدن التي تتغير، وفي القرى التي تهاجر، وفي المجتمعات التي تعيد تعريف ذاتها. ومن هنا يبدأ أي تحليل علمي حقيقي، لا من خرائط تتبدل على الورق ثم تُفرض على الواقع.