عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    01-Oct-2025

ترميز التافهين هندسة الانهيار وتفكيك المجتمعات*د. محمد العرب

 الدستور

في عالمٍ صاخبٍ بالمتغيرات، لم تعد الحروب تُخاض بالمدافع والدبابات وحدها، بل بأدواتٍ أكثر خفاءً وأشدّ فتكاً ، لا تترك جثثاً في الشوارع، لكنها تخلّف عقولاً ميتة وضمائر خامدة ومجتمعات مشوشة عاجزة عن النهوض ، تلك هي حرب ترميز التافهين  الحرب التي لا تعلن عن نفسها في نشرات الأخبار، لكنها تمضي بلا هوادة لتقويض أسس الاستقرار وإعادة تشكيل الوعي الجمعي وفق هندسةٍ مريبة تجعل الركاكة سلوكاً عاماً والسطحية معياراً والمعنى استثناءً.
 
ما المقصود بترميز التافهين؟ إنه العملية التي يُحوَّل فيها التافهون من حالات فردية هامشية إلى رموز مرجعية، تُلمَّع صورتهم، ويُعاد إنتاجهم في الوعي الجمعي بوصفهم (نجوماً) و (قدوات) و (قصص نجاح) حتى يصبح حضورهم في المشهد أمراً طبيعياً، بل مطلوباً ، لا يعود الأمر مجرد تسليط أضواء عابرة على أشخاص فارغين، بل يتحوّل إلى منظومة متكاملة تصنعهم وتعيد تدويرهم وتغذيهم بالاهتمام، فتخلق منهم ظاهرة اجتماعية تبتلع العقول من دون مقاومة.
 
حين يُرمَّز التافهون، تبدأ المعايير في الانهيار بصمت. يصبح التافه نموذجاً يحتذى، والجاهل صوتاً يُستمع إليه، والسخيف مصدراً للتأثير والتوجيه ،ومع الوقت تتحول الساحة العامة إلى فضاء يحكمه من لا يملكون سوى الضجيج، فيُهمَّش العلماء والمفكرون وأصحاب المشاريع الكبرى لصالح من يتقنون فنون العبث والفراغ. هنا تبدأ أخطر مراحل الحرب: حين تفقد المجتمعات بوصلتها وتكفّ عن التمييز بين القيمة واللا قيمة.
 
خذ مثلاً مشهد (المؤثرين) في العالم العربي اليوم: ملايين المتابعين لشخصيات لا تحمل أي مضمون معرفي أو مهني أو أخلاقي، بينما المفكر أو الباحث أو الطبيب الذي يغير حياة الناس بعلمه بالكاد يعرفه أحد. فتاة تبث حياتها اليومية في مقاطع فارغة تُعامل كقدوة تحتذى، وشاب يصرخ أو يرقص أو يسخر من القيم يحصد أرباحاً طائلة ويُستدعى كـ (رأي عام) في القضايا الكبرى. هذا ليس خطأ عابراً ، بل نتيجة منظومة (ترميز) أعادت تعريف الشهرة والنجاح بحيث صار الفارغ في المقدمة والمُجتهد في الظل.
 
الأمر لا يقتصر على الإعلام الرقمي. ففي الثقافة والتعليم والإعلانات والسياسة، نرى آثار هذه الحرب نفسها. في بعض البلدان، يُستدعى أشخاص لا يملكون أي رصيد معرفي للحديث عن قضايا علمية أو اقتصادية معقدة فقط لأن لديهم جمهوراً واسعاً ، بينما يُقصى أهل الاختصاص. في المدارس، يحلم الطلاب بأن يصبحوا (مشاهير منصات) لا علماء أو أطباء، لأن المجتمع الذي يراهم يومياً يمجّد العبث ويكافئه. في الإعلانات، تُستخدم وجوه لا علاقة لها بالمنتج أو بالمجال للتأثير في الجمهور، وكأن الرسالة أن الشكل أهم من المضمون. وهكذا شيئاً فشيئاً ، يُعاد تشكيل القيم ببطءٍ وخبث. لم يعد النجاح مرتبطاً بالإبداع أو بالإنجاز، بل بالقدرة على إثارة الانتباه. لم يعد احترام الإنسان قائماً على عطائه، بل على مدى حضوره في الفضاء العام. ومع الوقت، ينسحب هذا التشوه من الشاشات إلى العقول، ومن الثقافة الشعبية إلى السياسة العامة. يتحول النقاش العام إلى مسرح للسطحيين، وتُختزل القضايا الكبرى في شعارات جوفاء، وتُدار الجماهير بعواطف اللحظة لا بعقول واعية.
 
من أخطر الأمثلة ما نراه حين تنشغل الشعوب بقصص تفاهة تشغل مساحتها الإعلامية لأيام، في وقت تمر فيه قرارات مصيرية تمس حياتهم دون نقاش حقيقي. حادثة سخيفة بين (مشاهير) قد تشغل الرأي العام أكثر من قانون يغيّر شكل الاقتصاد أو يحدّ من الحريات. هكذا تعمل آلية الترميز: تُشبع الناس بضجيج لا ينتهي حتى تنطفئ فيهم الرغبة بالسؤال عن جوهر الأشياء. إنها نسخة محدثة من (سياسة الخبز والسيرك) التي استخدمتها الإمبراطوريات القديمة لإلهاء شعوبها عن التفكير في مصيرها.
 
لكن لماذا ينجح التافهون في السيطرة على المشهد؟ لأنهم يقدمون للعقل الكسول ما يريد: التسلية السريعة، الأحكام الجاهزة، الحلول البسيطة، الوهم بأنه (يعرف) لمجرد أنه شاهد أو علّق أو شارك. لأنهم يملؤون فراغاً صنعته أنظمة تعليمية فاشلة وثقافة نقدية غائبة ونخب فكرية منسحبة. ولأن المنصات الرقمية بخوارزمياتها الجشعة تكافئ ما يُثير الانتباه لا ما يُضيف للوعي. وهكذا يتحول التافهون إلى أبطال، لا لأنهم أقوياء، بل لأننا نحن من ترك الساحة لهم.
 
النتائج كارثية على المدى البعيد. مجتمع يعتاد ترميز التفاهة يفقد مناعته الحضارية. في الأزمات، يتهاوى لأن أفراده لم يتربّوا على الجدية والانضباط والعمل، بل على السخرية والاستهلاك والبحث عن المتعة اللحظية. في السياسة، يُدار بعواطف الجماهير الموجَّهة لا بعقول النخب الواعية. في الاقتصاد، يتراجع الإنتاج الحقيقي لصالح اقتصاد (المحتوى الفارغ) الذي يستهلك ولا يخلق قيمة. في الثقافة، تضيع المعايير ويختلط الغث بالسمين.
 
ولنا في أمثلة كثيرة عبرة. انظر كيف تحولت بعض الدول التي كانت تمتلك فرصاً هائلة للنهوض إلى مجتمعات راكدة لأن خطابها العام انحدر إلى التفاهة. في التسعينيات، كان بعض الشباب العربي يحلم بأن يصبح مهندساً أو طبيباً أو كاتباً مؤثراً ، اليوم، كثير منهم يحلم بأن يكون (يوتيوبر) أو (مؤثر) يرقص أمام الكاميرا. هذا التحول ليس مجرد تغير في الطموحات، بل تغير في منظومة القيم التي تحدد وجهة أمة بأكملها.
 
تأمل كيف يهاجر العقول المبدعة من بلدانها بحثاً عن الاعتراف، بينما تُمنح الجوائز والأضواء لمن يثيرون الجدل دون أي إنجاز يُذكر. هذا الاستنزاف لا يضر الأفراد وحدهم، بل يسرق من الدول مستقبلها. كيف يمكن لدولة أن تنافس في اقتصاد المعرفة وهي تكافئ الجهل وتُقصي الكفاءة؟ وكيف تبني منظومة صحية أو تعليمية قوية وهي تسمح بأن يقود الوعي من لا يعرف الفرق بين الحقيقة والخرافة؟
 
وحتى في لحظات الكوارث، يتجلى أثر ترميز التافهين بوضوح. حين تضرب الأزمات، يبحث الناس عن (مؤثرهم) المفضل ليسألوه عن رأيه بدلاً من الرجوع للخبراء. وحين تقع الكارثة، يكون من يملك القدرة على تهدئة الجماهير شخصاً لا يعرف شيئاً سوى كيف يحصد الإعجابات. عندها ندرك أن التفاهة لم تعد مجرد تسلية  لقد أصبحت خطراً وطنياً.
 
لكن رغم قتامة المشهد، لا يزال بإمكاننا المقاومة. يبدأ ذلك بإعادة الاعتبار للمعنى، بإحياء دور النخب الفكرية والعلمية، بترسيخ ثقافة النقد والتفكير العميق، وبمحاصرة ظاهرة الترميز لا عبر المنع، بل عبر إعادة توزيع الضوء. حين يُحتفى بالمبدع كما يُحتفى بالمهرج، وحين يُمنح مكان لصوت العاقل وسط ضجيج السطحي، وحين تُعاد صياغة مناهج التعليم والإعلام لتغرس في الناس حب العمق لا هوس الشهرة، يبدأ المجتمع في استعادة عافيته.
 
ترميز التافهين ليس قدَراً لا يُرد، لكنه إن تُرك بلا مقاومة يصبح أداة فعّالة في هندسة الانهيار. فالعدو لا يحتاج إلى أن يهدم أسوارك إن كان بوسعك أن تفعل ذلك بنفسك من الداخل. يكفيه أن يُقنعك بأن السخيف مهم، وأن العابر عظيم، وأن اللاشيء كل شيء. عندها تتكفل أنت بالباقي.
 
الحروب التي تُشنّ على الوعي أخطر من تلك التي تُشنّ على الأرض. والدول التي تسقط في مستنقع التفاهة قد لا تسمع صوت انهيارها إلا حين يصبح النهوض مستحيلاً. لذلك، فإن معركتنا اليوم ليست مع أشخاص بعينهم، بل مع منظومة كاملة تسعى لخلخلة الثوابت وطمس المعايير وتحويل العقل إلى أداة استقبال لا إنتاج. وإذا أردنا أن نحمي الاستقرار ونبني مجتمعات قادرة على البقاء، فعلينا أن نُدرك أن مقاومة ترميز التافهين ليست ترفاً ثقافياً  إنها شرط وجود.