الدستور
إذا كان السارق يكذب، فالسرقة لا تكذب - مثلٌ تركي.
أنهيتُ مؤخرًا دورة متقدمة في تعظيم الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي، ركّزت على توظيف قدراته في مجالات متعددة كالبحث والكتابة والتحرير وتحليل البيانات والتصميم وأتمتة المهام، بما يعزز الكفاءة ويُسرّع الإنجاز. جوهر الدورة كان في إتقان ما يُعرف بـ»هندسة التوجيه» (Prompt Engineering)، أي فنّ صياغة التعليمات المرسلة لبرامج الذكاء الاصطناعي بدقة ووضوح. فكلما ازداد التوجيه إحكامًا، جاءت المخرجات أدقّ وأكثر فاعلية.
ومن أبرز ما خرجت به من تلك الدورة، وللأسف أنني أصبحت قادراً على تمييز المحتوى المُنتَج بواسطة الذكاء الاصطناعي، سواء كان مقالًا أو محادثة أو تصميمًا. لقد أدركت حجم التغلغل العميق لهذه الأدوات في تفاصيل حياتنا اليومية. زوجتي تفاجئني أثناء النقاش السياسي بقولها: «سألتُ شات جي بي تي، وأجابني كذا وكذا». وصديقي يزعم أن الذكاء الاصطناعي أصبح مستشاره النفسي، وابني يرى فيه أقرب أصدقائه، بينما أصبحت ابنتي تعتمد كليًا عليه في تصاميمها، حتى باتت دراستها في مجال التصميم بلا جدوى.
صديقي يمازحني قائلًا إن للمهنة أثرًا ينعكس على تصرفات أصحابها، فالحلّاق مثلًا أول ما يلفت انتباهه هو الرأس بتفاصيله، أما أنا، فأوّل ما يستوقفني في المقالة هو فكرتها ثم بناؤها. ومع المهارات التي اكتسبتها، بدأت ألحظ أن كثيرًا من المقالات تُولّد باستخدام الذكاء الاصطناعي، حتى تلك التي تُنسب إلى كتّاب كبار.
أتفهم لجوء بعض الكتّاب المبتدئين إلى هذه الأدوات لصناعة محتوى يمنحهم حضورًا أو يقربهم من طموحاتهم، لكن أن يفعل ذلك كاتب مخضرم له باع طويل في المهنة، فذلك يُعدّ خيانة لقرائه، ولمؤسسته، ولنفسه.
في الماضي، كان الكتّاب يصغون للإذاعات، ويطالعون المجلات، ويجالسون الناس، ويعودون إلى الكتب والمراجع حين يكتبون. أما اليوم، فنحن نلجأ إلى محركات البحث، وهذا لا غضاضة فيه. بل إن الاستعانة بالذكاء الاصطناعي لتوسيع البحث، أو إثراء الفكرة، أو تحسين الأسلوب، أمر مشروع ومفيد. الإشكال لا يكمن هنا.
الإشكال يبدأ حين يتنازل الكاتب كليًا عن أفكاره وروحه وضميره، ويُسلّم مقالته لجهاز لا يفكر ولا يشعر، فقط ليرتاح أو ليوفر وقتًا. هنا لا يعود الكاتب كاتبًا، بل يصبح ناقلًا لمخرجات آلة.
نستطيع أن نسمح للذكاء الاصطناعي أن يفكر عنا، ويختار لنا الروايات، ويصوغ نصوصنا، ويرسم صورنا، ويصنع لنا الرأي والموقف. بل ربما نعامله ككائن بشري، وقد نتورط في مشاعر تجاهه. لكن السؤال الأهم: إلى أي حدّ نرغب أن يستبدلنا؟ أن يتحكم في وعينا وقراراتنا؟
كم من العرق والتنهيدة والحبّ نودّ أن نحتفظ به؟ كم من العجز نرضى أن نعيشه حين نعجز عن صياغة فكرة، أو رسم لوحة، أو التقاط خاطر؟ أن نتقبل سخافة مقالتنا، وسطحيّة أفكارنا، وركاكة بيت الشعر الذي نرسله لمن نحب. تلك هي البشرية: بخيباتها وشراراتها، بإبداعها وتعثرها.
نحن أمام تحدٍ غير مسبوق، علينا أن نقرر فيه: إلى أي مدى نريد أن نحتفظ بإنسانيتنا؟ اليوم، بات بمقدورنا أن نختار كمّ الوعي الذي نريده، ومقدار الأرض التي نُبقيها تحت أقدامنا، والريح التي تعبث بشعورنا، والمطر الذي يدغدغ وجداننا. الخيار بأيدينا، لكن الثمن قد يكون أنفس ما نملك: أن نكون بشرًا.
عزيزي القارئ، قد تشعر في هذه المقالة بدفء إنساني، قد تراها جاءت من القلب...
لكن، ماذا لو كان الذكاء الاصطناعي هو من كتبها كاملة؟