عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    25-Jul-2025

"مذكرات دجاجة" للمترجم الحسيني.. تأملات في الحياة والإنسانية

 الغد-عزيزة علي

 في كتاب "مذكرات دجاجة"، للمترجم والأكاديمي المقدسي الفلسطيني إسحق موسى الحسيني، والذي طُبع لأول مرة عام 1943، ليس مجرد سرد لحياة دجاجة، بل تأملات فلسفية في الضلالات الإنسانية، في الحب والعدل والمساواة، وفي القوة والحق. 
 
 
من خلال صوت هذه الدجاجة، نستطيع أن نرى انعكاسًا لمشاعر الإنسان وهمومه، ونفهم كيف أن الظلم يولّد الشر، وأن الاستسلام للباطل لا يجلب إلا الهوان.
 
يأتي نشر هذه المذكرات ضمن سلسلة "الموروث الثقافي"، حيث أعادت وزارة الثقافة الفلسطينية طباعة "مذكرات دجاجة"، لتذكرنا بأن الحكمة قد تأتي من أبسط المخلوقات، وأن الرسائل العميقة لا تحتاج إلى لغة معقدة، بل إلى قلب ينصت ويعي. إنها دعوة لكل قارئ، صغيرًا كان أم كبيرًا، أن يتأمل، ويعيد التفكير في قيمه، ويستلهم العزم على مواجهة التحديات بثقة وإيمان.
في عالم الأدب، نلتقي أحيانًا بأعمال تأخذنا إلى عوالم غير مألوفة، تحمل في طياتها حكمة مدهشة ورؤية عميقة للحياة والمجتمع. "مذكرات دجاجة" هو أحد هذه الكتب النادرة، حيث تحكي دجاجة فلسطينية قصتها، متجاوزة حدود الواقع، لتصبح رمزًا لحكمة الشعوب وصراعها من أجل العدالة والكرامة.
كتب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين مقدمة لهذا الكتاب، قال فيها: "هذه دجاجة عاقلة، جدّ عاقلة... ماذا أقول؟ بل هي دجاجة مفكّرة، تُفلسف شؤون الاجتماع بعمق، وتُدبّر الرأي، فتصل إلى اكتشاف بعض الأدواء الاجتماعية وتصف لها الدواء. ماذا أقول؟ بل هي دجاجة شاعرة، تُحسّ ألم الحب ولذّته، وتفيض بعواطف دقيقة، لا يهتدي إليها إلا الشعراء الملهمون، ولا يقدر على تصويرها إلا من أوتي حظا من سحر البيان. بل هي دجاجة رحيمة، تعطف على الضعفاء والبائسين، وترقّ للمحرومين، وتؤثرهم على نفسها وإن كانت بها خصاصة. وهي، إلى هذا كلّه، بليغة فصيحة؛ تفكّر فتحسن التفكير، وتُعبّر فتجيد الأداء.
ويضيف حسين، ومن المحقق أن هذه الدجاجة تشعر شعور الناس، وتفكّر تفكيرهم، وتعبّر كما يعبّرون. وقد كنا نظن أن عيوب الناس مقصورة عليهم، حين تتصل بالأخلاق الفردية والاجتماعية، فإذا بهذه الدجاجة تبيّن لنا أن عيوب البشر شائعة أيضًا في نوع من الحيوان –هو الدجاج– وأن محاسن الناس، وإن كانت قليلة، تظهر كذلك في هذا النوع!"
ويرى حسين أن الدجاجة كشفت لنا عن نظراءٍ يشاركوننا في لذّاتنا وآلامنا، وفي محاسننا وعيوبنا. وهي، في ذلك، تُشبه تلك الحيوانات التي تحدّثت في "كليلة ودمنة"، منذ قرون طويلة. ومن يدري؟ لعلّها تتحدث كما تحدثت تلك الحيوانات، جاعلةً من نفسها رمزًا لنا، ومعبرةً عمّا لا نستطيع نحن أن نُعرب عنه حين نريد أن نُصوّر حياتنا، ونصف ما فيها من العيوب والأدواء.
ويشير حسين إلى أن هذه الدجاجة فلسطينية، وقد كتبت مذكراتها –على الأرجح– بلغة الدجاج، وعلى النحو الذي يصطنعه هذا النوع، حتى يُسجّل شيئًا أو يُصوّر أمورًا في صحف لا نعرفها نحن. والله – عز وجل – قادر على كل شيء، وقد علّم سليمان عليه السلام منطق الطير ولغة الحيوان.
ويقول حسين، وكان الدكتور إسحق الحسيني قد علم لغة الدجاج: فقد قرأ مذكرات هذه الدجاجة الفلسطينية، ففهمها أحسن الفهم، وترجمها أحسن الترجمة. وقرأنا نحن ترجمته هذه، فشاركنا دجاجة فلسطين فيما أحست به من حزن وفرح، ومن لذة وألم ورأينا – وما أعجب ما رأينا – أن دجاجة فلسطين تجد في حب الخير، وبغض الشر، والطموح إلى المثل العليا في العدل الاجتماعي، وفي العدل الدولي، وفي كرامة العروبة وحقها في عزّة حديثة تلائم عزتها القديمة، ما يجده كل عربي من أهل فلسطين، بل من أهل الشرق العربي كله.
فليت شعري: أيّهما ترجم عن صاحبه أفضل؟ ترجمة الدكتور إسحق الحسيني أم صاحبه نفسه؟ عن الدجاجة أم ترجمت الدجاجة عن إسحق الحسيني؟ وأي غرابة في ذلك؟ لقد مضت سنة الشعراء من العرب أن يشاركوا الحمائم في الحب والحنين والأسى، فيترجمون عنهن حينا، ويزعمون أنهن يترجمن عنهم حينا آخر: "أبنات الهديل أسعدن أوعد/ن قليل العزاء بالإسعاد/ أيه لله دركن فأنتــ/ن اللواتي تحسن حفظ الوداد."
ويقول حسين، يمنع الدكتور إسحق الحسيني أن يتجاوز بهذا الفن حمام القدماء إلى دجاج المحدثين؟ أما بعد، فإني سعيد حين أرحب بهذا الكتاب بين أجزاء هذه السلسلة، لأنه كتاب قديم كريم، ولأنه كتاب أخ من أهل فلسطين، ولأن في صدوره بين أجزاء هذه السلسلة برًا بما وعدنا به من جعل هذه السلسلة وسيلة من وسائل التعاون الثقافي، وأداة من أدوات الوحدة الفكرية بين أهل الوطن العربي كله. فلصاحب هذه القصة تحية المحب، الذي ينتظر لفته مستقبلًا باهرًا، وينظر منه غير كثير.
من جانبه كتب الكاتب والصحفي المصري ومدير دار المعارف نشر رجب البنا، تقديمًا لكتاب "مذكرات دجاجة"، قال فيه: "لهذا الكتاب في نفسي ذكرى لا أنساها. فقد قرأته أول مرة منذ أكثر من أربعين عامًا، وتأثرت به تأثرًا شديدًا، وظل عالقًا بذاكرتي، وإن كنتُ قد فقدت نسختي منه بعد ذلك، ولم أستطع أن أعثر على أخرى.
لكنني في السنوات الأخيرة، كنتُ كلما التقيت بأحد الكُتّاب أو المفكرين العرب، جاء ذكر هذا الكتاب باعتباره من روائع الأدب العربي الحديث. وغالبًا ما كان الحديث ينتهي بأمنية واحدة: أن تعيد دار المعارف نشر هذا الكتاب، ليقرأه الجيل الجديد، ويُدرك أن الوجدان العربي لم يكن يومًا غافلًا عن المؤامرات الكبرى التي تُحاك ضد الوطن العربي.
ومنذ شهور، تلقيت أكثر من طلب من دور نشر أوروبية لترجمة هذا الكتاب إلى عدة لغات، وقد صدرت فعلاً ترجمة حديثة له باللغة الإنجليزية. عندها رأيتُ أن القارئ العربي أَولى بأن يقرأ هذا الكتاب، ويستعيد قيمته الأدبية والفكرية.
وهكذا، تتأكد أقوال الدجاجة الحكيمة، التي قالت إن كلمة الخير شجرة مباركة، لا بد أن تثمر عاجلًا أو آجلًا. ويتأكد كل يوم قولها الآخر: إن حياة الاستسلام جُبن، لا يُقدِم عليه إلا الأرذلون من المخلوقات.
والحقيقة أن كل ما قالته هذه الدجاجة العربية الحكيمة، وما فعلته، يستحق التأمل، وحُسن الاستفادة. فهي دجاجة شجاعة، حكيمة، وصاحبة رسالة. تتكلم بحرارة المؤمن، وتدعو إلى العدل، والمساواة، والمحبة، وتنبه البشر إلى حقيقة كثيرًا ما تغيب عنهم، ويكون غيابها سببًا في اندلاع الشرور، والحروب، والعنف.
فهي تصرخ في وجوههم: إن الصغير والضعيف، حين يتعرضان للظلم، تثور في نفسيهما أحقاد، تدفعهما إلى ارتكاب الشر، وبذلك يُورث الظلمُ ظُلمًا، ويُنتج الشرُ شرًّا.
وفي حكمة الدجاجة العربية مواجهةٌ لكثير من ضلالات البشر.
من هذه الضلالات، الاعتقاد بأن الفرد يستطيع أن ينعم بالسعادة منفردًا دون سواه. وتحت تأثير هذا الوهم، يسرق اللص مال غيره، ويلجأ النذل إلى الخيانة، ويتوسل الدنيء بالكذب والنفاق والاحتيال.
ومن ضلالات البشر أيضًا، الظنّ بأن المادة هي السبيل الوحيد للسعادة، وأن من كثر ماله كثرت سعادته. وهي ضلالة من أخطر ما يكون، لأن من أحب شيئًا حد التعلق به، قد يستهين بكل الوسائل الشريفة من أجل إحرازه، ويذل كرامته ومروءته في سبيل الاحتفاظ به.
هذه الدجاجة العربية تنطق بالحكمة، وتقف في مقام المعلم للبشر. تكشف الضلالات التي يعيشون في ظلالها، لكنها تعلم أن مقاومة هذه الضلالات لا يقدر عليها إلا من وهبه الله عزمًا، وحزمًا، وإيمانًا، وثقة".
ويرى إن هذه الدجاجة أكثر شجاعة وأقوى عزيمة مما نتصوّر. فهي تُعلن، أمام جميع المخلوقات – ومن بينهم البشر – أنها عاهدت الله أن تحفظ حرمة المأوى الذي أودعت فيه جثمان زوجها وذويها، وشاهدت فيه نمو مبادئها.
ويضيف البنا، أَلستُ محقًا إذا تمنّيتُ أن يقرأ هذا الكتاب كل عربي، كل شاب، كل طفل، وكل شيخ، ليستلهموا منه الحكمة، والشجاعة، والقوة؟ ولا أدري، يا عزيزي القارئ، ماذا تقول عني إذا صارحتك بشعوري بعد أن قرأت هذا الكتاب من جديد؛ لقد تمنيتُ – صادقًا – أن أكون مثل هذه الدجاجة.
وفي مقدمة بعنوان "إلى القارئ"، يقول المؤلف:"أيها القارئ الكريم، هذه القصة تروي نصف حياة دجاجة عاشت في بيتي، نشأت بيني وبينها ألفة ومودّة. كنت أطعمها بيدي، وأرقب حياتها يومًا بيوم. الأحداث التي ترويها وقعت لها بالفعل، وهي لا تتجاوز المألوف في حياة الدجاج.
ويضيف، لو قُدّر لصديقتي الدجاجة أن تتكلم بلسان البشر، لما قالت غير ما تقرأه في هذه الصفحات. فأنا – في الواقع – أترجم لك ما أوحت به إليّ. أما عنصر الخيال فيها فضئيل، لا يتعدّى كونه تعليقًا على هامش الحياة، أو تحليقًا في عالم المثل العليا.