الغد
تصنيع الحتمية.. حتمية التخيل (2)
بدأ تصنيع الحتميات الفلسطينية مع الانتداب البريطاني، حين تلاقت السياسة الإمبريالية مع الطموح الاستيطاني الصهيوني لبناء واقع جديد على الأرض. وصوّر «وعد بلفور» في العام 1917 إقامة «وطن قومي لليهود في فلسطين» كمشروع خيري إنساني وتقدمي، بينما يمحو بشكل منهجي الوجود السياسي للأغلبية الفلسطينية صاحبة الأرض. وتم تصميم البنية الإدارية والقانونية للسلطة الاستعمارية البريطانية لإضفاء طابع مؤسسي على هذه الرؤية بحيث تجعل الاستيطان يبدو قانونيًا، وعقلانيًّا، ولا رجعة فيه. وبتشغيل آليات مثل قوانين نقل ملكية الأرض، وسياسات الهجرة، وخلق نظام قانوني ثنائي، طبّعت السلطات البريطانية المشروع الصهيوني باعتباره نتاجًا للشرعية الدولية. وبذلك أُعيد تأطير ما كان فعليًا مشروعًا استعماريًا متطرفًا وعرضه كتطور حتمي لتاريخ العالم، تدفقت فيه الحداثة والحضارة بطريقة طبيعية في اتجاه تأسيس وطن يهودي.
ثم، في أعقاب نكبة 1948، دخل تصنيع الحتمية الفلسطينية طورًا جديدًا أكثر عمقًا وتخندُقًا. لم توصف عمليات التهجير الجماعي للفلسطينيين وتدمير مئات القرى بما هي كتطهير عرقيّ، وإنما كتداعيات مأساوية حتمية للحرب –آلام حتمية لولادة الدولة الناشئة. وبتأمين الاعتراف الدبلوماسي، ودمج نفسه في المجتمع الدولي، وإعادة تعريف اللاجئين الفلسطينيين كمشكلة إنسانية وليس كقضية سياسية، نجح الكيان الجديد في تحويل الاحتلال العسكري إلى كائن شرعي. وقبل المجتمع الدولي، بقيادة القوى الغربية التي مكّنت الكارثة في المقام الأول، هذا الترتيب الجيوسياسي الجديد باعتباره كائنًا ونهائيًا. وبذلك تم تحويل القضية الفلسطينية من مسألة حقوقٍ ونضال تحرري من استعمار إلى مسألة إغاثةٍ وتوطين، في ما شكل انتصارًا لمنطق الحتمية على مبدأ العدالة.
جاء احتلال 1967 والتوسُّع الاستيطاني اللاحق ليكونا امتدادًا أكثر تعقيدًا لهذه العملية. باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، صنع الكيان واقعًا جديدًا شرع في توطيده على الفور لجعله دائما. ومرة أخرى لم تُقدَّم الأوامر العسكرية ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات على أنها ضمّ، وإنما كإجراءات أمنية؛ كاستجابات «مؤقتة» لتطورات نزاع لم يُحسم. لكنّ هذه الإجراءات صُمِّمت لتُنتِج نفس الديمومة التي تتظاهر بإنكارها. ومع كل توسّع استيطاني جديد، كانت اللغة السياسية والدبلوماسية الدولية تتحول من الإدانة إلى التسليم بـ»الوقائع على الأرض» كحقيقة لا يمكن تجاوزها. وبهذا التحول الاستطرادي نجح الكيان مرة أخرى في تحويل نتاجات العمل الاستعماري القهري لتُفهم على أنها ضرورةً تاريخية. وأصبح مصطلح «الوقائع على الأرض» نفسه من أكثر أدوات الحتمية المصنّعة فاعلية، بتأكيده على أن ما هو قائم يجب أن يدوم لمجرد أنه قائم.
ثم جاءت «اتفاقات أوسلو» في التسعينيات لتحدث اختراقا حين آذنت بمأسسة منطق الحتمية وتوطينه في داخل البنية السياسية الفلسطينية نفسها. ومع أنه تم تأطيرها كاختراق نحو السلام وتقرير المصير، قامت أوسلو فعليًا بتكريس حالة التجزئة والخضوع للكيان الفلسطيني. وقد أعادت الاتفاقات تعريف الاحتلال لتحوّله من هيكل للسيطرة ينبغي تفكيكه، إلى إطار تنبغي إدارته. وبإنشاء «السلطة الفلسطينية» كجهاز إداري محدود الصلاحيات تحت السيطرة المطلقة للسلطات الاستعمارية، طبَّعت أوسلو داخليًا منطق الحتمية داخل منظومة الحكم الفلسطيني. وبذلك تحول ما كان مفروضًا من الخارج –من تجزئة وتبعية وتضييق مكاني- ليصبح البنية السياسية الفلسطينية ذاتها. وعزّز المجتمع الدولي هذا الترتيب بتقديم «أوسلو» على أنها «الطريق الواقعي الوحيد» نحو السلام. وعنى ذلك عمليًا تهميش –أو حتى تجريم- أي رؤية سياسية تلمح إلى بديل.
وما يزال تصنيع الحتميات الفلسطينية جاريًا بالقوة العسكرية، والتشريع، وضبط الخطاب المسموح بتداوله عالميًا. في السرديات الإعلامية، واللغة الدبلوماسية -وحتى خطاب العمل الإنساني- يجري التأكيد على «الاعتبارات الأمنية»، و»دورات العنف»، و»إدارة الصراع»، لتُنتج الوهم بأن هيمنة الكيان حتمية ودائمة. ويخدم خطاب «عملية السلام» نفسه كأداة لتصنيع الحتمية حين يعرض مظهر الحركة بينما يضمن السكون. وبإبقاء الفلسطينيين منخرطين بشكل دائم في حالة تفاوضٍ لا يبدو أنها ستؤول مطلقًا إلى سيادة، حوّلت «العملية السياسية» وضع الفلسطينيين المعلّق إلى حالة طبيعية. وحتى القطاع الإنساني نفسه يشارك في هذه الدينامية حين يتعامل مع الأعراض –الفقر، والنزوح، والصدمة- من دون تشخيص وإبراز الأسباب السياسية التي تولّدها. كل ذلك يعزز الوهم بأن الترتيب الراهن، مهما كان غير عادل، هو الثابت الذي لا يمكن تحريكه.
والآن، تسلّم «خطة ترامب» لغزة مستقبل القطاع لسلطة دولية معادية لفلسطين تُسمّى «مجلس السلام»، يرأسها ترامب نفسه ويديرها توني بلير. وهي خطة تعيد فرض منطق الوصاية الأجنبية على الإرادة الفلسطينية، وتغلف سوأة الاحتلالَ بلغة إعادة الإعمار وحفظ السلام. ومثل كل مسارات «السلام» السابقة، تُقدَّم الخطة التبعية والتجزئة والإخضاع باعتبارها محطات حتمية على طريق «تقرير المصير»، في إعادة إنتاج لنفس البنى التي تجعله مستحيلًا.
كان من الملفت في ردة الفعل الشعبية العالمية على مجزرة غزة أن عشرات مقاطع الفيديو والمداخلات وشعارات الاحتجاجات في الغرب استعادت فكرة «فلسطين حرة من النهر إلى البحر». (ليس بالضرورة رمي الصهاينة في البحر، وإنما على الأقل تفكيك نظام الفصل العنصري والإبادة الجماعية الصهيوني). عندما شاهد الغربيون مجازر الكيان في غزة، اختار كثيرون منهم استكشاف حقائق الصراع لفهم ما يحدث وتحديد موقف أخلاقي. وبمجرّد قراءة التاريخ الموثق لنشوء المشروع الصهيوني والنكبة الفلسطينية –من دون المرور بعملية غسيل الدماغ وتلويث الوعي بـ»الحتميات» المصنعة- خلص كثيرون منهم إلى الاستنتاج الحتمي أخلاقيًا والمستند إلى التاريخ: أن فلسطين يجب أن تكون كلها حرة.
كان ما أظهره تحقيق هؤلاء الغربيين –ومنهم شخصيات ومؤثرون وازنون- أن ما يواجهه الفلسطينيون هو مشروع استعماري استيطاني إحلالي غير أخلاقي ولا شرعي بالتعريف، قام على الإقصاء والاقتلاع والمحو. ولن يكون لمشروع هذه صفاته «حق الدفاع عن نفس» ولا هو يستحق الدفاع عنه وتبرير وجوده أيضًا. وكان لا بد أن تفضي قراءة غير منحازة سلفًا لتاريخ فلسطين واستعمارها إلى حتمية أخلاقية داعمة لذاتها: أن شعبًا اُقتلع قسراً من دياره يملك حقاً غير قابل للتصرّف في المقاومة، والتحرر، والعودة والعيش في كامل وطنه والسيادة عليه. سوف يحكم الحس السليم إذا تحرر من التلاعب السياسي بأنّ العدالة كل لا يجزَّأ — وأنّ حرية فلسطين وحق الفلسطينيين العادل فيها له تعريف واحد.