الغد-ديمة محبوبة
لم يعد عالم "تيك توك" و"إنستغرام" حكرا على الشباب أو الفتيات الصغيرات اللواتي يقدمن نصائح الجمال أو محتوى الترفيه السريع.
ففي الأعوام الأخيرة، ظهرت موجة في صفحات التواصل الاجتماعي العربي، إذ قررت نساء تجاوزن الستين من أعمارهن خوض التجربة الرقمية بكل حماس وثقة، ليصبحن وجوها مألوفة في عالم السوشال ميديا، يجمعن بين الحكمة والحنين والبساطة في زمن يتسارع بسرعة الضوء.
في الأردن ومصر والمغرب والسعودية والإمارات ولبنان ودول كثيرة؛ بدأت تبرز أسماء لجدات وصاحبات خبرة يشاركن يومياتهن ووصفاتهن وقصصهن القديمة على الإنترنت.
بعضهن دخلن المجال عن طريق أبنائهن بفيديوهات مضحكة، وأخرى فيها تحديات، أو من خلال فيديوهات يتحدثن فيها عن أوطانهن أو أثوابهن وعاداتهن، ما جعل لهن جمهورا يطالبهن بتواجدهن بكثرة.
أصبحن يقدمن محتوى عن المطبخ التراثي، وأخريات يتحدثن عن التجارب الحياتية والعلاقات الأسرية، بينما هناك من وجدن في المنصات وسيلة للتعبير عن آرائهن في قضايا اجتماعية بلغة قريبة من القلب، ونصائح لتخطي صعوبات الحياة من تجارب عملية وواقعية.
تقول أم سامر من إربد "بدأت الظهور على السوشال ميديا بعد أن ظهرت مرات عدة مع ابنتي وحفيداتي على صفحاتهن، فأنا محبة للرحلات وتحضير موائد طعام جميلة، وبعد أن أصبح هناك جمهور يطلب أن أبقى على تواصل معهم، قمت بإنشاء صفحات خاصة بي، أنشر عليها يومياتي ومواعيد لرحلات وجمعات أدعو إليها نساء لأتعرف عليهن".
وتروي سمر أحمد كيف أنشأت لوالدتها صفحة على "إنستغرام" وحسابا على "تيك توك"، مؤكدة أن والدتها جدة لـ8 أحفاد بأعمار مختلفة، لكن روحها شابة وتحب الجمعات الكبيرة والألعاب.
وتبين أن صفحاتها متنوعة ما بين الطبخ والتحديات مع الأحفاد، وما بين النصائح التي تتحدث عنها مع بنات الجيل والأمهات حديثات التجربة.
وتؤكد أن والدتها وجدت لنفسها مساحة تحبها وتتواصل فيها مع الناس، فلا تجد للملل وقتا. وتقول "حياة والدتي اختلفت كثيرا بعد وفاة والدي، تبدل حالها وكانت تشعر بالملل والحزن على غير عادتها، لكن مع انشغالها بعالمها شعرت أن طاقتها عادت إلى ما كانت عليه من قبل".
وأخريات كثر تواجدن وانشهرن عبر وصفات الجمال، أو التطريز، أو التحف القديمة. هذه التجارب المختلفة تلتقي جميعها في رغبة واحدة، وهي كسر العزلة والتواصل مع الجيل الجديد.
يقول اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين الخزاعي، تعليقا على هذا التوجه الذي بات منتشرا عربيا "الجدات العربيات اللاتي يظهرن على المنصات الرقمية اليوم يعبرن عن تحول اجتماعي وثقافي عميق في العالم العربي، فالجيل الذي كان يظن أن التكنولوجيا ليست له، أصبح يستخدمها كوسيلة للتواصل والتعبير واستعادة الدور الاجتماعي، ونحن أمام نموذج جديد من التكيف الإيجابي مع العصر".
ويضيف الخزاعي أن التأثير النفسي لهذه الظاهرة لا يقل أهمية عن بعدها الاجتماعي، مبينا أن المرأة الكبيرة في السن، حين تشعر أن صوتها مسموع وأن الناس يتفاعلون مع تجربتها، تستعيد ثقتها بنفسها وتشعر بقيمتها في المجتمع، فهذه الخطوة تقلل من الإحساس بالوحدة وتفتح مجالات جديدة للمشاركة والاندماج.
لكن دخول الجدات العربيات إلى السوشال ميديا لا يخلو من تحديات، إذ إن بعضهن يتعرضن لتعليقات سلبية أو سخرية من فئة ترى أن المنصات للشباب فقط.
ووفق المرشدة النفسية والتربوية رائدة الكيلاني، فإن الإنسان خلق ولديه مهارة التكيف بشكل كبير، فهو قادر على إيجاد الأمل والضوء من رحم المعاناة، وأن يواكب تطورات العصر بصورة كبيرة مهما كان عمره صغيرا أو كبيرا.
وتوضح أنه قبل عشرة أعوام، كانت فكرة أن سيدة فوق الستين تدير حسابا على "تيك توك" أو "إنستغرام" غير مألوفة إطلاقا، أما اليوم بفضل بساطة الاستخدام، وتعليم الأبناء والأحفاد، أصبح كبار السن قادرين على إنتاج محتوى بأنفسهم.
وتضيف الكيلاني أن خوارزميات هذه المنصات تساعد في انتشار هذا النوع من المحتوى، التي تحمل طابعا إنسانيا أو صادقا وتصل بسهولة إلى الجمهور لأنها تثير العاطفة وتكسر النمط السائد.
لكنها تؤكد على معلومة أنهن يتعرضن أحيانا إلى بعض التهكمات والتنمر، وعدم الترحيب بهن في هذه المنصات، وهنا يأتي دور الأحفاد والأبناء في شرح أن هذه المنصات تحتوي، كما المجتمع، على الجميل واللطيف والداعم وأيضا المسيء، وأن الأفضل عدم الانسياق للكلام المسيء ومجاراتهم.
وبحسب الكيلاني، فإن محتوى الجدات لا يقتصر على الطبخ والذكريات، بل يتناول أيضا مواضيع عصرية، مثل تربية الأبناء في زمن الإنترنت، أو التعامل مع اختلاف الأجيال، أو حتى نصائح حول الصحة النفسية في مرحلة ما بعد التقاعد.
ويرى الخزاعي أن هذه الظاهرة يمكن أن تستثمر ثقافيا وتربويا، فلو تم دعم هؤلاء النساء من مؤسسات ثقافية أو إعلامية، يمكن تحويل تجربتهن إلى جسر حقيقي لنقل القيم والتراث بطريقة معاصرة، فالجدة التي كانت تحكي القصص في ليالي الشتاء، أصبحت اليوم ترويها عبر شاشة الهاتف، وهذا استمرار طبيعي لوظيفتها الاجتماعية القديمة.