عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Nov-2025

أن تفكر كفلسطيني..! (17)*علاء الدين أبو زينة

 الغد

يتركز التوتر الأساسي بين “نحن الهوياتية” و”نحن السياسية/ الفصائلية/ المشروعاتية الجزئي” في الخبرة الفلسطينية حول فلسطين الأرض. وفي الحقيقة، تتعلق كل ذات هوياتية جمعية في أي مكان على هذا الكوكب بالأرض. وقد دار الصراع في فلسطين، وما يزال، على الأرض بين هويتين، واحدة أصيلة وأخرى مختلقة تريد أن تحل محلها. ووصل الأمر في هذه المرحلة إلى منح بولندي أو أوكراني من الجيل الثاني من المستعمرين الشرعية ليقول إنه من “تسيبوري” (صفد) أو “أحيهود” (البروة، قرية محمود درويش)، أو “كريات جات” (عراق المنشية)، بينما الفلسطيني من الجيل العشرين أو المائة أو الألف يُسلب شرعية المطالبة بهذه الأماكن أو الانتماء إليها.
 
 
لم يكن اليهود، تاريخيًا، شعبًا بالمعنى المعروف للشعب، القائم على العلاقة الطويلة بالأرض والسيادة. كانوا جماعة دينية متفرقة عابرة للأوطان. وعندما فكر المشروع الصهيوني في جعلهم شعبًا، وتلاقى ذلك مع رغبة الغرب في حل “المشكلة اليهودية”، كان إيجاد الأرض– التي تقرر أن تكون فلسطين– هو الشرط الأساسي الذي حوّلهم إلى “شعب” ودولة. ووفرت لهم الأرض الرابط المادي والسياسي الذي جعلهم كيانًا قوميًا قائمًا على الوجود في الأرض نفسها أكثر من كونه قائمًا على رابط ثقافي أو قومي أو تاريخي مشترك.
وفي معادلة “الأرض”، أنتج الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين نقيضه بالضرورة: شعبًا بلا أرض. واعتمد مفهوم “العودة” في المشروع الاستعماري على تحويل أرضٍ مأهولة فعليًا إلى واحدة تخيلها خالية أو تنتظر الخلاص. ومن أجل خلق متسع لـ”الأمة” الجديدة، كان لا بدّ من محو الفلسطينيين الأصليين، مفهوميًّا وماديًّا -من الخرائط، والنظم القانونية، والذاكرة الجماعية. ولم– ولن- ينفصل وجود “إسرائيل/ الأرض” كوطنٍ إقليمي لليهود عن تجريد الفلسطينيين من أرضهم. وكان الاستيطان، بالإضافة إلى كونه استحواذًا على الأرض، عملية إعادة تعريف لمن يحقّ له الانتماء إليها. وبترسيخ القومية اليهودية على أساس السيادة الحصرية على الأرض، جعلت الصهيونية الوجود الفلسطيني غير شرعي، ودفعته إلى المنافي أو إلى جيوبٍ هامشية داخل وطنه نفسه. وفي ذلك كانت “العودة” اليهودية و”الإبعاد” الفلسطيني هما وجهان لحدثٍ تاريخي واحد قائم على “قانون الإزاحة” Law of Displacement، حيث يزيح جسم في الحيز جسمًا مساويًا له في الحجم، بحيث ينشأ “شعب” مختلق على حساب حرمان شعب أصيل من وجوده.
يفكر الفلسطيني بـ”الأرض” بوصفها المكافئ الدقيق لـ”نحن” الفلسطينية، حيث ترتبط الجغرافيا بالوجود الجمعي الفلسطيني نفسه.
 عندما كنت أرافق أمي، طفلًا، إلى مركز وكالة الغوث لاستلام المساعدات في الستينيات والسبعينيات، كانت النساء اللواتي جمعهن البؤس يبدأن التعارف، لتزجية الوقت– ليس بالسؤال عن الاسم، وإنما بعبارة “انتي من وين، بلا زُغرة”. ويأتي الجواب: من عجور؛ من ترمس عيا؛ من المسميّة، وعشرات الأماكن. كانت النساء يعرفن أنهن كلهن فلسطينيات بحكم التواجد في مركز الوكالة. لكنّ المكان المحدد كان يعوض عن الاسم الشخصي، ويوفر فكرة أولية عن الماهية الخاصة للفرد. ومن هذا النوع من التعارف عرفتُ أسماء عشرات، وربما مئات القرى والبلدات الفلسطينية، ليكون ذلك جزءًا من تعرُّفي إلى هويتي الجمعية التي تعني كل هذه الأماكن، كابن لاجئين فلسطينيين.
تعلمتُ أن الهويّة الفلسطينية– بذاكرتها، واستمراريتها، وتماسكها الأخلاقي- تنبع من العلاقة الحميمة بين الإنسان والمكان. وحين يغتصب آخرون الأرض ويعيدون تسميتها وصياغتها، فإنهم لا يستهدفون مجرد الأرض، وإنما النسيج، أسماء مئات الأماكن التي تكافئ الوجود الفلسطيني نفسه، والتي كان من الضروري هدمها وتغيير أسمائها. ولذلك، عندما يبدأ طفل فلسطيني يولد في أي مكان في العالم في تعلُّم اللغة، وتسأله من أين هو، فإنه سيجيبك باسم القرية أو المدينة أو البلدة التي ينتمي إليها أبوه وأجداده في فلسطين. إنه يغلب أن لا يقول: أنا من فلسطين –ربما باعتبار ذلك مفروغًا منه- وإنما سيجيبك باسم المكان المحدد الذي يعرف أنه ينتمي إليه كما لو بالجينات.
وبذلك، طالما بقي الفلسطيني على قيد الحياة، فإنه يدرك أن التخلي عن المطالبة بالأرض “الصغيرة” التي يُعرف بها نفسه يعني، باعتبار حاصل الجمع، تذويب “نحن” الفلسطينية وتلاشيها التدريجي مثل الشمعة المحترقة.
ويعرف أن التمسك بها وتعريف الذات بالانتماء إليها هو الوسيلة لبقاء الفلسطينيين، كشعب، في التاريخ. وعندما يحدث أن يعتدي مشروع فصائلي فلسطيني– أو عربي، أو دولي- على هذه الذات الجمعية التي تعرّف فلسطينيتها بأسماء قراها وبلداتها، ويلغي حق العودة المقدس –أكثر بالتأكيد من التنسيق الأمني مع سلطة الاستعمار- فإن هذا المشروع بالنسبة لثلاثة أرباع الفلسطينيين المستبعدين يتماهى حرفيًا مع سردية العدو التي أقامها على الحق في الأرض، ويساعده في إنجاز الإبادة التاريخية للفلسطينيين كشعب.
ثمة الآن وعي عالمي جديد يتشكل بالقضية الفلسطينية، نشأ –للأسف- نتيجة للإبادة التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة. وهو وعي يراجع السرديات، وفي وضع يجعله متقبلًا جدًّا لسماع السردية الفلسطينية. وهو يفهم الفلسطينيين ككيان جمعي، كشعب، ويشرعن نضالهم بلا فصائلية ولا يدينه. وهي فرصة نادرة وثمينة لاستعادة السردية الفلسطينية الحقيقية، بما فيها حق العودة الأساسي، وإعادة تعريف نظام الاستعمار الاستيطاني الإبادي الصهيوني بما هو، بالإحالة إلى التاريخ المتاح والموثق.
لا ينبغي الآن عرض السردية الفصائلية التجزيئية التي تقول للعالم أنه لا مانع لدى الفلسطينيين من شرعنة الوجود الاستعماري في ثلاثة أرباع أرضهم والصفح عن جرائمه مقابل أرض صغيرة. سيكون هذا تفويتًا لفرصة نزع الشرعية عن المشروع الاستعماري بالكامل– وهو يفقدها فعليًا. لا يمكن تبرير هذا التنازل بالبراغماتية لأنه يخون سردية كل الفلسطينيين القائمة على الحقيقة والعدالة. بل إن هناك من اليهود أصحاب الضمير أنفسهم من يأسفون لتطامن المطالب الفلسطينية والعربية بفلسطين، بينما يرفع يهود شعارـ “فلسطين من البحر إلى النهر” -على الأقل بمعنى تفكيك نظام الاستعمار العنصري الإبادي وتطبيق حق العودة الفلسطيني إلى فلسطين والتمتع بحقوق سياسية متساوية.
أختم بما يقوله المؤرخ الإسرائيلي الشهير، إيلان بابيه، في مقابلة حديثة: “أعتقد أنه علينا أن نولي اهتمامًا للجيل الفلسطيني الشاب. ليست القيادة السياسية الحالية للفلسطينيين مثيرة للإعجاب من حيث وحدتها ورؤيتها وفعاليتها. لكنك إذا استمعت، ورأيت، وتحدثت إلى الفلسطينيين الشباب، فثمة رأس مال بشري هناك، والذي سيكون قادرًا، كما أعتقد، على إعادة هيكلة حركة التحرير الفلسطينية، وتوجيهها نحو مسار أكثر فعالية في المستقبل، والتي يكونون فيها فعليًا في مقعد القيادة -ليس في الصراع من أجل تفكيك الصهيونية فحسب، بل الأهم -في قيادة النقاش حول ما ينبغي أن يحل محل إسرائيل منزوعة الاستعمار، أو إذا كنتُ مصيبًا، إسرائيل مفككة سينهار فيها المشروع الصهيوني أمام أعيننا”.