عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    15-Jul-2025

مؤشر النزاهة البحثية في الجامعات*د.خالد العاص

 الدستور

في عالم يتسارع فيه إنتاج المعرفة بوتيرة غير مسبوقة، باتت النزاهة البحثية حجر الزاوية الذي تُقاس به قيمة أي مؤسسة أكاديمية، ولم تعد جودة الجامعات تُحدد فقط بعدد بحوثها المنشورة أو تصنيفها الدولي، بل أصبحت مستويات الالتزام بأخلاقيات البحث العلمي ونزاهته معيارًا حاسمًا يعكس ثقافة الجامعة، ورصانتها الأكاديمية، ومدى جدّيتها في أداء رسالتها.
يقيس مؤشر النزاهة البحثية مدى التزام الجامعات وأعضاء هيئاتها التدريسية والباحثين بأعلى معايير الأمانة الأكاديمية، من حيث أصالة الأبحاث، احترام حقوق الملكية الفكرية، دقة توثيق المراجع، تجنب الانتحال العلمي  (Plagiarism)، وضمان الشفافية في نشر البيانات والنتائج. وقد بدأت جامعات ومراكز تقييم دولية كبرى بإنشاء تقارير دورية أو أنظمة تصنيف تُدرج النزاهة البحثية ضمن مؤشرات قياس الأداء، ما يفرض على الجامعات إيلاء هذا الجانب أولوية قصوى.
رغم الجهود المبذولة، لا تزال بعض الجامعات العربية تعاني من غياب سياسات واضحة أو مفعّلة بجدية في مجال النزاهة البحثية؛ فبينما تتسابق بعض المؤسسات على زيادة عدد البحوث المنشورة لتحسين تصنيفها العالمي، يغيب أحيانًا التركيز على جودة البحث وأصالته. تظهر مظاهر ذلك في بعض حالات النشر المتسرع، أو تجاهل اقتباس الأفكار والنتائج بشكل علمي سليم، أو حتى في التساهل مع الكتّاب الأشباح Ghost Writers)) الذين يكتبون أبحاثًا كاملة بمقابل مادي، والأخطر من ذلك أن هذه الممارسات تؤدي إلى تآكل الثقة المجتمعية بمصداقية الجامعات ومخرجاتها العلمية، وتضعف قدرتها على إبرام شراكات دولية قائمة على احترام المعايير الأكاديمية الرصينة.
تولي الجامعات العالمية الكبرى مؤشر النزاهة البحثية اهتمامًا خاصًا، ليس فقط من باب الأخلاق الأكاديمية، بل لأنه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بسمعة المؤسسة في المجتمع البحثي والصناعي، وكذلك لدى جهات التمويل.
جامعة تعلن صراحةً عن نظام لمكافحة الانتحال، ولديها لجان نزاهة فاعلة، وتفرض التزامًا صارمًا بقواعد الاقتباس والتحكيم العلمي، هي جامعة يُنظر إليها دوليًا باحترام، ما يزيد من فرص تعاونها البحثي ومنحها المشاريع الممولة.
الأمر لا يتعلق بوضع سياسات على الورق فحسب، بل يحتاج إلى ثقافة مؤسسية متكاملة، تبدأ من إدخال موضوع النزاهة البحثية في برامج تأهيل طلبة الدراسات العليا، وتكثيف ورش العمل والتدريب الأكاديمي لأعضاء هيئة التدريس، مع فرض عقوبات واضحة على المخالفات.
حتى الأبحاث التي تُعد باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، مثل برامج الكتابة الآلية والنصوص المدعومة بالخوارزميات، لم تعد بمنأى عن المراجعة والتدقيق؛ إذ ظهرت في السنوات الأخيرة برمجيات متخصصة للكشف عن النصوص المُنتَجة بالذكاء الاصطناعي، تتيح للجامعات وهيئات النشر العلمي التعرف على مدى أصالة العمل الأكاديمي ومصدره البشري أو الآلي. وهذا يضيف بُعدًا جديدًا للنزاهة البحثية في الجامعات، ويؤكد أن النزاهة لا تقتصر على منع الانتحال التقليدي فحسب، بل تشمل أيضًا مراقبة توظيف التقنيات الحديثة لضمان أن البحث العلمي يظل نتاجًا أصيلًا للفكر والتحليل البشري المسؤول.
إن مؤشر النزاهة البحثية ليس مجرد بند إضافي في تقارير الأداء الجامعي، بل هو معيار حضاري يحدّد مكانة أي مؤسسة علمية في خارطة العالم الأكاديمي. والجامعات التي تهمل هذا الجانب، مهما بلغت أعداد أبحاثها المنشورة، ستظل تفتقر إلى القيمة الحقيقية التي تبني مستقبل العلم وتحفظ ثقة المجتمع.
وفي زمن العولمة الأكاديمية، صار هذا المؤشر بطاقة عبور أساسية لأي جامعة تطمح لأن تكون مؤثرة، محترمة، وصاحبة دور رائد في صياغة مستقبل البحث والابتكار.