الغد-ترجمة: موفق ملكاوي
أميناتا فورنا
المجتمعات تبجل رواية القصص، تقريبا، بقدر تبجيلها للقصص. نحن نتحدث عن العجائب التي يمكن أن تخلق القصص، والطرق التي يمكن أن تغير العالم نحو الأفضل.
البشر يسردون القصص. هذه حقيقة. كل مجتمع، مهما كان منظما ومتنوعا، سواء كان قائما على قيم ذكورية أو نظام أبوي، وسواء كان زراعيا أو بحريا، سلميا أو مثيرا للحروب، فإنه يحكي القصص. نحن نعرف هذا لأن علماء الأنثروبولوجيا يقولون لنا ذلك. علماء الأنثروبولوجيا والمؤرخون (من هم المؤرخون سوى رواة قصص؟)، وعلماء الآثار، الذين تتبعوا أصل القصص منذ نشأة الحياة البشرية. أول قصة مكتوبة تم العثور عليها هي ملحمة جلجامش، التي تم إنتاجها في وقت ما بين 2150 و 1400 قبل الميلاد، مكتوبة بالطريقة المسمارية على أجزاء من ألواح، واكتشفت في رمال ما يعرف الآن بسورية.
من الأساطير الملحمية مثل جلجامش إلى الحكايات، نحن نروي القصص لبعضنا بعضا كل يوم: "خمني ما حدث؟" هي كلمات ابني (7 أعوام) الأولى المعتادة عندما يندفع داخلا من الباب في نهاية اليوم. امرأة متأخرة على موعد غداء مع صديق، تقول وهي تجلس "فقط، استمع لنوع اليوم الذي اختبرته...". رجل في المقهى يميل نحو رجل آخر، ويقول "لذلك كنت أسير أنا على الطريق السريع...". وهكذا تجري الأمور. سرد القصص هو عملية تكافلية، هو تبادل بين الراوي والمستمع، وبين الكاتب والقارئ. هذه هي الطريقة التي يتشارك فيها ابني إنجازاته وإحباطاته في يومه، وهي الطريقة التي تشجع بها المرأة المتأخرة تعاطف صديقها بدلا من السخط، وهي كيف يمد الرجل في الحانة يد الصداقة إلى جاره.
من السهل أن تروي قصصا حول ما تفعله أو يفعله الآخرون. اليوم أعرف كيف كان من الممكن أن يشعر من يعيش تحت حكم الفصل العنصري من كان ثيمبا، كيف تتكشف الحياة اليومية خلال الحرب الأهلية في لبنان من ربيع علم الدين، مشاعر الخوف والشجاعة للمستعبدين من كولسون وايتهيد. من خلال الكتب يمكنني السفر عبر المسافة والفضاء والوقت. أستطيع أن أتخيل ما الذي يعنيه أن تكون رجلا، أو شخصا مسنا، أو استعادة تجربة الشباب. هذا يساعدني على فهم عوالم الناس الآخرين. في الواقع، إن الصلة بين الأدب والتعاطف تم ترسيخها، مؤخرا على يد باحثين في "المدرسة الجديدة"، والذين وجدوا أدلة على أن الأدب يحسن قدرة القارئ على فهم ما يفكر فيه الآخرون وما يشعرون به. كذلك، فإن قراءة الأدب القصصي - والمثير للاهتمام أن الأمر لا يسير بالمعيار نفسه للأدب غير القصصي أو غيره من فروع الأدب كالرومانسية أو الإثارة - في الواقع يغير سلوك الناس.
تركز القصص على الجانب النفسي للشخصيات وعلاقاتها. الشخصيات في القصص هي حقيقية بالقدر الذي يريد لها الكاتب ذلك، وهي مليئة بالصراعات والعيوب مثل أي واحد منا. يسعى الأدب القصصي لطرح الأسئلة بدلا من تقديم إجابات. وقد لا يمكن التنبؤ بالنتيجة. أبحاث "المدرسة الجديدة" تظهر أن الأدب القصصي يحث القارئ على تخيل الحوارات الاستباقية للشخصيات. هذا الوعي النفسي يكتسب في التعامل مع العالم الحقيقي المليء بالأفراد المعقدين، والذين عادة ما يصعب فهم حيواتهم الداخلية. القراءة تحرر القارئ من قيود الذات، ومن التحيزات الخاصة بنا ومن الافتراضات. القراءة تجعل منك شخصا عمليا. وبعبارة أخرى؛ القراءة تجعلك شخصا أفضل.
لكل هذه الأسباب نحن نعتز بالقصص ونعتز بأولئك الذين يكتبونها. المجتمعات تبجل رواية القصص تقريبا بقدر القصص. نحن نتحدث عن العجائب التي يمكن أن تخلق القصص، والطرق التي يمكن أن تغير العالم نحو الأفضل. نحن لا نتحدث عن الألم الذي يمكن للقصص أن تسببه، ولا عن الضرر الذي يمكن أن تلحقه بنا.
عندما كنت في السادسة من عمري، كان أحد كتبي يحتوي على قصيدة عن صبي أسود صغير، شديد السمرة، والذي كان يتعرض للسخرية للون بشرته من قبل ثلاثة أولاد أبيض. الساحر، والذي كان عملاقا أيضا، سمعهم، فأخذ الفتيان البيض الفظيعين، وغمسهم بحبر أسود بحيث أصبحوا بعدها سودا. حاولت أن اكتشف ذلك، بقدر يسمح لي عقلي في ذلك السن. الساحر العملاق يعاقب الأولاد البيض القساة. بدا ذلك صحيحا فقط. لكن أن يكون عقابهم بتحويلهم إلى سود فهذا أمر غير منطقي.
نشأت بين سيراليون في غرب أفريقيا وبريطانيا في السبعينيات. في سيراليون، استعرت كتبا من مكتبة المجلس الثقافي البريطاني. قرأت جاك لندن وقرأت هاكليبيري فين لمارك توين. لم أكن أعلم أن جاك لندن كان على ما يبدو من المتحمسين الذين يعتقدون أن الناس الملونين، خصوصا أصحاب الدماء المختلطة، كانوا أدنى بيولوجيا. أحببت الكلاب وأحببت الذئاب، لذلك قرأت "وايت فانغ" و"نداء البرية". لم أنتقد تصويره لحياة الأميركيين الأصليين؛ لم أكن قادرة على ذلك. حتى بعد تقديم فيلم وثائقي عنه لمصلحة هيئة الإذاعة البريطانية، لست متأكدة، كما هو حال كثير من الكتاب، إلى أي مدى اخترقت إيديولوجية لندن كتاباته، ولكن أستطيع أن أقول لكم إن الأبطال البشريين في "وايت فانغ" و"نداء البرية" كانوا رجالا بيضا. إنهم من يقهرون البرية، وهم الذين يظهرون الرحمة للوحوش، وهم الذين يضعون العالم على الطريق الصحيح. قرأت مغامرات "هكلبيري فين". أحببت مغامراته. كنت ما يسمونني حينها "مسترجلة"، ورأيت نفسي في هوك. كلمة زنجي"nigger" التي ظهرت عدة مرات على كل صفحة، لم تزعجني، لأنني لم أكن أعرف أنني كنت nigger، بسبب أنه حتى ذلك الوقت لم يكن أحد قط دعاني بهذا الاسم. لم أر نفسي سوداء أو بيضاء، ليس لأنني كنت من تراث مختلط، ولكن لأنني، ببساطة، لم أنظر إلى العالم أو إلى نفسي من ناحية عرقية.
عندما كنت في السادسة من العمر، أجبر عدم الاستقرار السياسي في سيراليون عائلتي على المغادرة والذهاب للعيش في لندن. وعلى مدى السنوات التالية تعلمت قوة الكلمة (زنجية)، وكيف ستكون ضدي، كما تعلمت جميع الأضرار التي يمكن أن تسببها.
فرانتز فانون كتب عن الكتب المصورة في خمسينيات القرن الماضي، وتأثيرها المدمر على النفس، قائلا "في المجلات الذئب، والشيطان، والأرواح الشريرة، والرجل السيئ، والهمجي، جميعهم يرمزون دائما إلى الزنوج أو الهنود، فهناك تحديد للمنتصر. النيجرو الصغير، تماما كما في كثير من الأحيان الصبي الأبيض الصغير، يصبح مستكشفا، مغامرا، مبشرا، والذي يواجه خطر أن يؤكل من قبل الزنوج الشريرين". قد يقال أن هذا ليس مهما، ولكن هذا لأنهم، فقط، لم يمنحوا تفكيرا كبيرا بدور هذه المجلات".
عرّفت توني موريسون ما تطلق عليه (الإفريقانية)، سواء كانت متجانسة أو مختلفة عن الاستشراق لإدوارد سعيد، بكلماتها الخاصة: "السواد الدلالي والسواد المفهومي الذي يعرف به الشعب الأفريقي، فضلا عن مجموعة كاملة من الآراء والافتراضات والقراءات الخاطئة التي ترافق التعلم الأوروبي حول هؤلاء الناس".
اعتقد فانون أن التصورات السلبية غير المنتهية عن الناس الملونين تضر نفسية الشعب المستعمَر، ما ينتج شعورا بدونية خاصة بهم. تشينوا أشيبي، الأديب النيجيري الحائز على جائزة نوبل، أخذ نظرة أكثر قوة لقراءة الصور الأوروبية عن أفريقيا كصبي "لا أعتقد أنني آمنت أن تلك الأمور كانت صحيحة، لكنني قابلت عددا كبيرا من الناس الذين يؤمنون بذلك. هذا هو "عبء الرجل الأسود"، ويجب على جميع الأفارقة الذين يلتقون أوروبيين لم يقابلوا إفريقيا من قبل أن يخترقوا أولا الأفكار المسبقة التي تعززها التقارير الإخبارية والمقالات، عن أفريقيا كمكان للبؤس الذي لا ينتهي".
ربما تكمن الحقيقة في مكان ما بين، اعتمادا على الظروف التي نشأ فيها شخص. في غرب أفريقيا كنا مستعمرين ولكن لم نستقر أبدا، على عكس الجزائر حيث عمل فانون وكتب. كيف رآنا الناس البيض كان له تأثير نفسي أقل، وبعيد. هل سبق لي أن اعتقدت أن الصور التي قرأتها عن الأفارقة والناس الملونين كانت صحيحة؟ من المؤكد أنها لم تخلْ بتجربتي الخاصة بالنمو في غرب أفريقيا. ولكن كطفلة، ربما، قبلتها كحقيقة لنسخة أخرى من الواقع، والتي لم أعشها، ولكن متعايشة مع وجودها.
أن يرى شخص انعكاس صورته في عيني شخص آخر، فقط، هو عرض للذات من خلال عدسة مشوهة. في سنوات مراهقتي ازداد الوعي أنه حتى لو لم أر نفسي في العديد من صور السود التي تحيط بي، فإن كثيرا من الناس رأوا ذلك. وإذا كنت قد أخبرتني أن التحدي، الذي ينقلب فجأة، وتلك الروايات المزيفة ستصبح عملي في حياتي، حيث أصبحت عمل حياة كل واحد منا لا يولد في المركز وينظر إليه على أنه "آخر" سواء بسبب العرق أو الجنس، أو الإعاقة، بالتأكيد ما كنت لأصدق ذلك.
ككاتبة، أكرّس نفسي لهذه المهمة، ويرجع ذلك جزئيا إلى أنه إن أردت أن تكون كاتبا جيدا فاجعل الأمر وكأنه لا مفر منه، ولأنه، كما قلت، أعتقد بعمق أن تلك القصص مهمة. يقول بن أوكري: "لتسمم أمة، سمم قصصها". فالأمة المثبطة تحكي القصص المثبطة لنفسها. حذار من رواة القصص الذين لا يدركون تماما أهمية هداياهم، وحذار من الذين لا يتمتعون بالمسؤولية تجاه استعمالات فنّهم. الراوي الحقيقي يعاني من الفوضى والجنون والكوابيس، إلا أنه يحل كل شيء، يرى بوضوح، ويرشدك بالتأكيد من خلال تجزئة الحدث ونقل العالم.. قصص يمكن لها تغيير السن الحقيقي، وتقلب العصر.
أو كما قال جيمس بالدوين: "تكتب من أجل تغيير العالم. إذا قمت بتغيير الطريقة التي ينظر بها الناس إلى الواقع، ولو ملليمترا واحدا، عندها يمكنك تغييره".
* أميناتا فورنا: روائية حائزة على جوائز، وكاتبة مذكرات، ومقالات. تشغل حاليًا منصب رئيسة كرسي لانان الزائر لقسم الشعر بجامعة جورج تاون، وأستاذة الكتابة الإبداعية بجامعة باث سبا، والمادة مترجمة عن موقع "الأدب العالمي اليوم"