الغد
منذ قمة الدوحة العربية الإسلامية الأميركية، والمشهد الإقليمي يتحرك تحت مظلة كواليس ثقيلة، عنوانها العريض ليس فقط الحرب في غزة، بل إعادة صياغة العلاقات بين العرب وواشنطن، ببراغماتية جديدة، تتجاوز خطابات الشجب القديمة، دون أن تُفرّط بمواقف الحد الأدنى من الكرامة والسيادة والمصالح المشتركة.
البيان الذي صدر من الدوحة حمل دلالات أكثر مما يُقرأ بين سطوره، فمن حيث الشكل كان واضحا أن العرب يتحدثون إلى واشنطن من منطق الشراكة لا التبعية، ومن حيث المضمون فإن الرسالة الموجهة لإدارة ترامب القادمة، أو ما يُستعاد منها عبر الوسطاء الحاليين، تتضمن تحذيرا دبلوماسيا ناعما، أن المنطقة لم تعد تقبل الوصفات الجاهزة، وأن هناك أولويات ملحة في المشهد العربي، تتقدمها القضية الفلسطينية، وأمن الإقليم، وعلاقة الطاقة بالاستقرار، ومسار التحديث الاقتصادي والتنموي في الخليج والهلال الخصيب معا.
لكن اللافت، أن واشنطن – بوجهيها الجمهوري والديمقراطي – تتعامل مع الإقليم اليوم بعين المنافسة لا الاحتضان، وكأن صعود قوى دولية جديدة من الصين إلى الهند، فتح شهية الأميركي على تثبيت قواعده من جديد في الشرق الأوسط، لا عبر الجيوش هذه المرة، بل عبر الاستثمار السياسي والصفقات المعقدة، وأبرزها "خطة السلام" التي سُربت بنسخة ذات 21 بندا، والتي تبدو أقرب إلى وثيقة تفاوض إعلامي من كونها مشروع تسوية حقيقيا.
الخطة الأميركية تتضمن وقف الحرب مقابل إدارة عربية– دولية لقطاع غزة، مع اشتراط نزع سلاح المقاومة، وتحييد حركة حماس، والاعتراف بإسرائيل من قبل دول إضافية، مقابل وعود غامضة بدولة فلسطينية في المستقبل، وعودة مسار المساعدات والتنمية، لكن دون جدول زمني، ودون مرجعية قانونية واضحة.
الدول العربية، خصوصا السعودية ومصر وقطر، تتعامل مع هذا المقترح بحذر، فهي لا تريده أن يُجهض من حيث المبدأ، لكنها لا تقبل أن يكون إعادة إنتاج لما سُمّي في الثمانينيات بـ "سلام بدون كرامة"، فالمشهد تغير، والأنظمة تغيرت، والأجيال تغيرت، ولم تعد عقلية المقايضة تنفع مع جمهور عربي يرى الدم والصورة والواقع دون وسيط، ويربط بين ما يجري في غزة وما قد يجري في عواصم أخرى إذا ما فُرض عليه صلح لا يقبل به الشارع ولا تحمله شرعية.
الأردن هنا، وسط كل ذلك، يتحرك بمزيج من الوضوح والحذر، فالخطاب الأردني، كما صدر على لسان رأس الدولة في نيويورك، كان استباقيا بشكل لافت، حين أشار إلى أن الصمت عن المأساة في فلسطين يعني التخلي عن إنسانيتنا، وحين رُفض منطق أن قيام الدولة الفلسطينية مجرد مكافأة، بل حُدد بوضوح أنه حق لا يُساوَم عليه، كان ذلك بمثابة رسم للبنة أولى في خطاب عربي واقعي، يقرأ التحولات، ويستعد للمرحلة التالية، دون ضجيج، لكنه أيضا دون تنازل.
ما بين واشنطن والدوحة وعمان والقاهرة والرياض، تتشكل الآن هندسة جديدة لعلاقات العرب مع أميركا، لم تعد فيها الأولوية لتحالفات الماضي القائمة على الحماية مقابل النفط، ولا الرضا مقابل الصمت، بل هناك رغبة في رسم عقد جديد، تشارك فيه واشنطن، لكن على قاعدة المصلحة المشتركة لا الغلبة الأحادية.
وهنا يأتي السؤال الأخطر، هل تستطيع الأنظمة العربية الحفاظ على هذه المعادلة وسط الضغوط الداخلية والغضب الشعبي والحسابات الدولية؟
الجواب لم يُكتب بعد، لكنه يُرسم اليوم، في كل اجتماع خلف الأبواب المغلقة، وفي كل حوار عابر للرسميات، وفي كل زيارة لدبلوماسي أميركي يبحث عن موطئ قدم في الشرق الجديد،
شرق لا يريد العودة للماضي، لكنه لا يقبل أن يُؤخذ إلى مستقبل لا يعرف حدوده.