غزة ما تزال تقصف.. وعنف المستوطنين في الضفة يتصاعد
الغد
أفي دبّوش* - (هآرتس بالعربي) 2025/11/10
يقول المثل: "كثيرةٌ هي الهواجس في قلب الإنسان". بإمكاننا أن نختلق لأنفسنا حكايات. وبإمكاننا أيضًا أن نبتلع رواية "وقف إطلاق النار" التي يسوّقها الرئيس الأميركي. لكن هناك حقيقة في هذا العالم، والحقيقة هي أنّه ليس هناك وقف لإطلاق النار حتى الآن، لا في غزّة ولا في الضفّة الغربية.
بصفتي أسكن على حدود خان يونس، فإنني أستطيع أن أشهد بأنّ القصف لا يتوقّف لحظة. هناك أيّام أكثر أو أقل هدوءًا فحسب. وقد انخفضت حدّة النيران منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار، لكن القصف ما يزال يتكرر بلا عدّ أو حصر: مدفعية ثقيلة، قصف جويّ، إطلاق رشاشات وأسلحة خفيفة. وكان إطلاق النار مكثّفًا للغاية ردًّا على العمَليّتَين القاتلتين ضدّ الجنود، وأدّى إلى إيقاع مئات القتلى الفلسطينيين، وبينهم عشرات النساء والأطفال. لكن النار مستمرّة أيضًا في غير هذه الأوقات. من حدود خان يونس يتّضح تمامًا أنّ هناك من يسعى إلى تخريب الفرصة للوصول إلى المرحلة الثانية: نزع سلاح القطاع، واستبدال حكم "حماس"، وانسحاب جنودنا من هناك. من الواضح أنّ هناك من يريد العودة إلى حربٍ لا تنتهي. ولسوء الحظّ، يجلس هؤلاء في المناصب الأعلى في حكومة إسرائيل.
أمّا في الضفّة الغربية، فقد تصاعد العنف منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وأدّى إلى سقوط عشرات القتلى بنيران المستوطنين، كما تشير الشبهات، وإلى مئات الحوادث المنظَّمة من العنف. ويشكل موسم قطف الزيتون ذروة للعنف لم نشهد مثلها من قبل. وتقود المنظمة التي أرأسها حملة "الحضور الحامي" للفلسطينيين المزارعين في الضفّة منذ أكثر من عشرين عامًا، بالشراكة مع منظمات مهمّة أخرى. ونحن شهود على التصعيد المستمرّ. وقد تحققت فعليًا حملة السيطرة على مناطق (ج) التي يقودها مجلس "يشع" طوال سنوات فعليًا في عهد الحكومة الحالية وبغطاء الحرب. ثمة بؤر استيطانية ومزارع ظهرت في كل مكان، وميليشيات يهودية تهاجم، تسرق المحاصيل، وتُضايق وتُخرّب.
في الأيام الثمانية عشر الأولى لنا في الميدان، هاجمتنا مجموعات منظَّمة من عشرات اليهود مرّتين. وفي تسع مناسبات تلقّينا أوامر بإعلان المنطقة التي نعمل فيها "منطقة عسكرية مغلقة"، موقَّعة من قائد اللواء. وهذه أوامر يتم إصدارها بسهولة لمدة 24 ساعة، وتمنعنا عمليًا من حماية المزارعين الفلسطينيين. وهناك أماكن لم يجرؤ الناس على الوصول إليها منذ عامين خوفًا من الإرهابيين اليهود. وفي جميع الحالات الموثّقة للهجمات التي تابعناها في أنحاء الضفّة، لم يوقِف الجنود أحدًا من المستوطنين، ولم تُجرِ الشرطة أي اعتقالات. وحتى الحالات الموثقة المصوَّرة، مثل الهجوم على امرأة مسنّة في المغير، لم تُفضِ إلى فتح تحقيق أو توقيف.
قبل الحرب كنّا على اتصال مباشر مع الجيش، يشمل اجتماعات عمل وتنسيق. والآن انقطع هذا الاتصال. من شعارات حماية المزارعين "حتى آخر زيتونة"، انتقل الجيش إلى منع فعلي لجني الموسم والوقوف جانبًا بينما يتكشف العنف. وتروج منظمات اليمين الآن لحملة تطالب بإلغاء موسم قطاف الزيتون من أساسه. وليس من الفائض التذكير بأنّ الحديث يجري عن أراضٍ خاصة تعود لعائلات وجماعات يعتمد رزقها عليها.
كانت المواجهة الأكثر كثافة لنا مع الجيش يوم الأربعاء الماضي في قرية بورين، قرب نابلس. هناك ادّعى الضباط والشرطة أننا خرقنا أمر المنطقة العسكرية المغلقة. وقاموا بجرّ المتطوّعين إلى مركز شرطة أريئيل حيث استجوبونا لساعات، ثم قرّروا مصادرة الحافلة الصغيرة التي وصلنا بها، وطرد اثنتين من الناشطات اليهوديات–الأميركيات من البلاد لعشر سنوات. لم تُجْدِ حقيقة أنّه حتى لو حدث خرق كهذا (وهو موضع شك)، فمن الواضح أنّ الناشطات لم يتّخذن القرار. والواضح أيضًا أنّهن وصلن بدافع قيم يهودية–صهيونية. وقد أمضى الجيش الذي يقف متفرّجًا حين كنا تحت الهجوم، والشرطة التي لم تتكلّف عناء القدوم رغم مناشداتنا، يومًا كاملًا لطرد ناشطات يهوديات ومنعهنّ من العودة لسنوات طويلة.
كلّ هذا لم يُعِدّنا لليوم الذي هاجمتنا فيه وحدة الطوارئ في مستوطنة "رفافا". منذ بداية الحرب تم تجنيد مئات المستوطنين الذين يستخدمون سلاح ومعدّات وملابس الجيش لتعزيز العنف في الميدان. كنّا في منطقة النبي حسان، نحو خمسين متطوّعًا، ثلثهم حاخامات وحاخامات نساء. وبدأ الأمر بطائرة مسيّرة تحوم فوق رؤوس المتطوّعين، ثم سقطت على يد إحدى الحاخامات متسبّبة لها بجُرح عميق ونازف، وانتهى الأمر بوصولهم إلى المكان وبنادقهم محشوّة وموجَّهة نحونا، مع إطلاق نار خطير في الهواء.
كان من العار أكثر مما يتصوّر المرء أن نواجه لاحقًا محاولات من الجيش وقادة المستوطنين للادّعاء بأننا لم نُهاجَمْ أصلًا. ولحسن حظّنا، كان هناك توثيق واسع، بما في ذلك فريق صحيفة "هآرتس" الذي حضر لتغطية موسم القطف ("هآرتس"، 11/4). وقد تراجع الجيش أخيرًا عن الاتهامات الموجّهة للنشطاء، لكن الطائرة المسيّرة والسلاح لم تُصادر من المستوطنين ولم يُعتقل منهم أحد. وما كان يمكن أن ينتهي بسهولة بقتلى على الأرض مرّ كما لو أنه يوم عمل عادي في الدائرة.
لن نتراجع. والأوامر الأخلاقية التي نعمل وفقها لا تتعلق فقط بالفضاء العام لحقوق الإنسان، بل هي موجودة أيضاً في التوراة التي تأمر: "وأحبِبِ الغريب" و"لا تُذِلّ الغريب ولا تُضيّق عليه" وتُعلّم قداسة حياة الإنسان -المخلوق على صورة الخالق.
إننا نعتبر أنفسنا أيضاً رسلًا في نضال يمتد داخل المجتمع الإسرائيلي. إن هذه النزعة العنفية والاضطرابات لا تبقى محصورة في "التلال"؛ إنها رأس الحربة في محاولة جرّنا جميعًا نحو حكم سلطوي عنيف، يحطّم حكم القانون ويغمرنا بالأسلحة وبقوّات ميليشيات تابعة لوزراء وأصحاب نفوذ. ليست هذه الحقيقة جديدة، ولكن حين تجلس الكاهانية في الحكومة وتُحدّد السياسة، فإنها تتحوّل إلى ظاهرة إرهابية منظّمة تهدّدنا جميعًا.
إن نضالنا في الضفّة هو نضال من أجل الديمقراطية ومطالبة بالمساءلة وبتحقيق تجريه لجنة تحقيق وطنية في المجزرة الكبرى في تاريخنا. ومع كلّ التفهم للرغبة في الهدوء والإيمان بخدعة "وقف־إطلاق النار"، فإن هذه ليست الحقيقة. الحقيقة تنادي بأن نقف هناك -كمجتمع مدني وكقوى سياسية منظّمة قادرة على القيادة، ونتحرك نحو تصحيح المسار ونحو إسرائيل مختلفة. الآن
*أفي دبوش Avi Dabush: كاتب وناشط اجتماعي وسياسي إسرائيلي، يُعدّ من الأصوات اليسارية البارزة في إسرائيل. يشغل منصب المدير العام لحركة "صداقاه" التي تعمل من أجل المساواة المدنية بين العرب واليهود في إسرائيل، وهو عضو سابق في حزب "ميرتس" اليساري. وُلد لأسرة يهودية شرقية من أصول تونسية، ويُعرف بمواقفه النقدية تجاه السياسات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، ,يدعو إلى إنهاء الاحتلال والتوصل إلى سلام عادل يضمن الحقوق الكاملة للفلسطينيين. يكتب بانتظام في صحيفة "هآرتس"، عن قضايا العدالة الاجتماعية، والعلاقة بين الدين والدولة، والتوترات القومية داخل المجتمع الإسرائيلي.