عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    18-Dec-2025

الوعي الإنساني والتكنولوجيا المعاصرة.. إشكاليات فلسفية بعصر الرقمنة

 الغد-عزيزة علي

 تنطلق محاضرة "الإنسان والوعي في عالم التحولات الرقمية"، التي قدمها أستاذ الفلسفة الغربية المعاصرة في الجامعة الأردنية، الدكتور توفيق شومر، من مقاربة فلسفية نقدية تسعى إلى تحليل أثر التطورات التكنولوجية، ولا سيما الذكاء الاصطناعي، في بنية الوعي الإنساني ومفهوم الإنسانية ذاته، في ظل بروز أطروحتي "العابر للإنسانية" و"ما بعد الإنسانية".
 
 
وتهدف المحاضرة التي جاءت ضمن ملتقى الثلاثاء الثقافي الذي تنظمه الجمعية الفلسفية الأردنية، إلى مساءلة الاستخدامات المعاصرة للتكنولوجيا بين كونها نتاجا للوعي الإنساني وأداة لتوسيع قدراته، وبين تحولها إلى قوة قد تهدد إنسانيته حين تُسخّر لمنطق الربح والسيطرة.
كما أعادت المحاضرة تأكيد مركزية الإنسان بوصفه فاعلا واعيا، وعلى ضرورة إخضاع التقدم التقني لمعايير أخلاقية وإنسانية تحفظ الكرامة الإنسانية، وتضمن أن يكون التطور التكنولوجي امتدادًا للوعي الإنساني لا نفيًا له.
تناول الدكتور توفيق شومر في محاضرته تأثير العالم الرقمي في مفهومي الإنسان والوعي، مستهلا حديثه بتعريف الإنسان بوصفه كائنًا بالغ التعقيد، إلى حد يجعل جميع التعريفات المتداولة قاصرة عن الإحاطة بحقيقته.
فالإنسان، بحسب شومر، كائن عاقل وناطق ومنتج، وقادر على التفكير المتعالي، كما أنه كائن عاطفي، وأضاف إلى ذلك صفة القدرة على ارتكاب التصرفات غير العقلانية وتبريرها.
كما ركز شومر على جوهر ما يجعل الإنسان إنسانًا، متناولًا مفهوم "الإنسانية" بوصفه قيمة مركزية ينبغي الحفاظ عليها في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، مؤكدًا ضرورة أن تكون التكنولوجيا في خدمة الإنسان والإنسانية، لا في خدمة الربحية ورأس المال فقط.
وتناول المحاضر تأثير التكنولوجيا والتحولات الرقمية في مفهوم الإنسان، مشيرا إلى بروز مصطلحي "العابر للإنسانية"، "ما بعد الإنسانية"، وما يترتب عليهما من انعكاسات عميقة على الإنسان بوجه عام.
وبين شومر أن لاستخدام التكنولوجيا تطبيقات إيجابية عديدة، ولا سيما في المجالات الطبية، مثل تعويض الأعضاء عبر الأطراف الصناعية، أو زراعة الشرائح التقنية لاستعادة حاسة البصر.
في المقابل، حذر من الاستخدامات الجائرة للتكنولوجيا، لما قد تسببه من آثار مدمرة، موضحًا أن بعض التحولات التقنية التي تهدف إلى إنتاج "جنود بكفاءة عالية"، أو زراعة شرائح في الدماغ لزيادة القدرة على التخزين أو تعزيز القدرات الذهنية، تتجاوز حدود استعادة القدرات "الطبيعية"، للإنسان، لتدخل في إطار "تصنيع" ما يمكن وصفه بـ"ما فوق الإنسان"، الأمر الذي يكشف عن خطورة هذا المسار التكنولوجي.
وأكد شومر ضرورة التعامل مع التكنولوجيا بوصفها أداة مساعدة للإنسان، ولكن ضمن حدود تحفظ إنسانيته، لا إلى الحد الذي يتحول فيه الإنسان إلى مجرد آلة في منظومة ربحية رأس المال.
كما قدم شومر تعريفا بمفهوم الوعي: "الوعي هو التفاعل القائم بين الجسد المفكر والعالم، الذي يمنح الإنسان القدرة على التعامل مع موجودات العالم، لا بوصفها موضوعات للتفسير فحسب، بل كعناصر يتفاعل معها ويشكلها ويغيرها". وأضاف أن هذا التفاعل يمكن أن يتحول إلى تكنولوجيا تكون في معظم الأحيان مفيدة للبشرية، لكنها قد تتحول في أحيان أخرى إلى قوة مدمرة.
وأكد شومر أن الوعي، على الرغم من كونه ذاتيًا، يُعد فاعلية إنسانية حسية مندمجة في الواقع ومتفاعلة معه، وهو ممارسة نظرية داخل الواقع نفسه. وأوضح أن التكنولوجيا وما وصلت إليه الإنسانية من تطورات متسارعة، ما هي إلا نتاجات لهذا الوعي الإنساني، الذي حول الطبيعة إلى ما أسماه "طبيعة مُؤنسنة". 
كما شرح شومر العوامل المختلفة المؤثرة في الوعي، محددا إياها في الجسد المفكر، والعالم الذي نعيش فيه، والمجتمع والعلاقات مع الآخر، إضافة إلى العالم الافتراضي المستجد. وتطرق إلى تأثيرات هذا العالم الافتراضي، ولا سيما الذكاء الاصطناعي، على الوعي الإنساني.
وأشار المحاضر، إلى أن الاستخدام المتواصل لهذه التقنيات قد يؤدي إلى فقدان التنوع والاختلاف في المعرفة والوعي، فضلًا عن تراجع عدد من المهارات الإنسانية الأساسية.
وأوضح أن الاعتماد المتزايد على الروبوتات في العمليات الجراحية، قد يفضي إلى تراجع أعداد الجراحين المهرة، كما أن استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص الطبي قد يؤدي إلى فقدان ذلك التميز الذي ينفرد به الطبيب الخبير، القادر على ملاحظة أعراض قد لا يدركها المريض نفسه. وأضاف أن توظيف الذكاء الاصطناعي في مجالات الفنون، يمكن أن يؤثر سلبًا في الذائقة الفنية للإنسان، وفي مفهومي الإبداع والتميز.
واستعرض شومر جملة من هذه التأثيرات التي قد تقود إلى إشكاليات متعددة، قبل أن يختتم محاضرته بنبرة تفاؤلية، مؤكدًا أن الإنسان مر عبر التاريخ بمحطات عديدة من التطور التكنولوجي، وتمكن في كل مرة من التعامل معها وتطويعها لخدمة البشرية. وشدد على أن الإنسان، بوصفه كائنًا واعيًا، قادر على التمييز بين ما يخدم إنسانيته فيُعمقه، وما يضر بها فيقصيه، مؤكدًا أن الأساس في ذلك كله هو تقديم مصلحة الإنسان على مصلحة الربح.
وفي ختام المحاضرة، دار نقاش موسع بين الحضور والمحاضر حول القضايا والأفكار التي تناولها شومر.