الغد
قضية فلسطين ليست ملفا إنسانيا أو قضية إغاثة أو إعمارا، إنما تمثل قلب الصراع في الشرق الأوسط، وركيزة من ركائز الحرب والسلام. ومنذ ثمانين عاما يتم التفاوض حولها إقليميا وعالميا، باعتبارها قضية وطنية مركزية.
وفي هذا السياق برزت ما يسمى بخطة الهيئة الانتقالية الدولية في غزة، التي يقف خلفها توني بلير ومؤسسته، باعتبارها مقترحا لإدارة مرحلة ما بعد الحرب.
ظاهر الخطة يركز على إعادة بناء المؤسسات، وتقديم الخدمات، وحماية المدنيين، غير أن جوهرها يشير إلى وصاية دولية طويلة الأمد، تعيد إنتاج أشكال من الانتداب بصيغة جديدة، وتتناقض مع الاعتراف الواسع الذي حظيت به دولة فلسطين في الأمم المتحدة، ومعظم عواصم العالم.
توني بلير، الذي قاد بريطانيا لغزو العراق عام 2003، ما زال اسمه مرتبطا بذاكرة التدخلات الخارجية المثيرة للجدل، كما أنه خلال فترة عمله مبعوثا للرباعية الدولية ( الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الولايات المتحدة، روسيا الاتحادية) لم يتمكن من دفع مسار سياسي جاد نحو التسوية، إنما انصرف إلى مقترحات اقتصادية وتنموية، اعتبرت هامشية قياسا بجوهر الصراع، وعودت بلير بمحمولاته السياسية المثيرة من خلال خطة إدارة غزة، توحي بأننا أمام إعادة تدوير لمقاربات سابقة لم تحقق نتائج إيجابية.
الخطة المقترحة تؤسس لمجلس دولي أعلى، يملك القرار السياسي والأمني والاقتصادي، بينما يقتصر الدور الفلسطيني على سلطة تنفيذية خدمية، ذات صلاحيات محدودة.
وهذا يعني عمليا تجريد الفلسطينيين من عنصر السيادة، وتحويل قطاع غزة إلى كيان يخضع لسلطة خارجية، والأخطر أن هذه الصيغة تتزامن مع لحظة سياسية شهدت اعترافا دوليا واسعا بدولة فلسطين، الأمر الذي يجعلها تتناقض مع هذا الاعتراف وتفرغه من مضامينه العملية.
المشهد الدولي يزداد تعقيدا، إذا ما وضعنا هذه الخطة في سياق التحولات التي رافقت مبادرة ترامب للسلام، فالمبادرة لقيت في بدايتها ترحيبا عربيا وإسلاميا، وحتى دوليا، باعتبارها مدخلا لإنهاء الإبادة في غزة، وفتح باب لتسوية شاملة.
بعد اجتماع ترامب مع نتنياهو، وصهره جاريد كوشنر، ومستشار نتنياهو الأمني رون ديرمر، جرى تعديل جوهري في تفاصيل المبادرة، الأمر الذي حولها من إطار سلام، إلى مشروع يفتح الباب لوصاية دولية على غزة.
هذا التغيير أثار حالة استياء عربية واسعة، خاصة بعد أن كانت قمة عربية إسلامية في واشنطن قد توصلت إلى صيغة بدت مقبولة للأطراف كافة، وقد أشار وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي إلى الغموض الذي رافق التعديلات على المبادرة الأصلية، قائلا إن الشيطان يكمن في التفاصيل، وهي التفاصيل التي قلبت المبادرة من سياق سلام، إلى مسار جديد يحمل مخاطر على الحق الفلسطيني.
الخطة أيضا تقترح إنشاء قوة استقرار متعددة الجنسيات تتحكم بالحدود والمعابر، وتنسق مع إسرائيل والغرب، كما تنص على إنشاء هيئة استثمارية، بقيادة رجال أعمال عالميين، تجعل من الإعمار مشروعا تجاريا، يخضع لمصالح المستثمرين أكثر مما يستجيب لحقوق السكان، والأكثر إثارة للقلق أنها تفتح الباب أمام ما يسمى بالمغادرة الطوعية لسكان غزة، مع وعود شكلية بالحفاظ على الملكية والحق في العودة.
من زاوية تحليلية هادئة، يمكن القول إن هذه الخطة قد تبدو في ظاهرها محاولة لإدارة أزمة إنسانية معقدة، لكنها في حقيقتها تنطوي على إعادة صياغة لمستقبل غزة خارج إطار المشروع الوطني الفلسطيني، وتفتح المجال لوصاية قد تطول إلى أجل غير معلوم.
والخطة في جوهرها تصطدم مع التوجه الدولي المتنامي نحو الاعتراف بفلسطين دولة مستقلة، وتضعف إمكانات استعادة الوحدة بين الضفة وغزة، وتحول القضية من مشروع تحرري إلى ملف إداري يخضع لإشراف دولي.
اللحظة الراهنة تفرض على الفلسطينيين والعرب التفريق بين الحلول التي تستجيب للحاجات الإنسانية العاجلة، وبين ما يمس جوهر السيادة والهوية الوطنية.
والمطلوب ليس رفضا مطلقا لأي انخراط دولي، إنما وضع إطار واضح، يضمن أن يكون الدعم الدولي مساعدا للمشروع الوطني، لا بديلا عنه.
إن أي خطة يجب أن تنطلق من الاعتراف بدولة فلسطين وسيادتها، وألا تتحول إلى وصاية جديدة تعيد عقارب الساعة إلى الوراء.