عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    09-Oct-2025

أن تفكر كفلسطيني..! (11)*علاء الدين أبو زينة

 الغد

كنتُ أستمع إلى وزير خارجية بولندا بينما يشرح في مقابلة موقف بلاده من خطة ترامب لغزة. وكان مما قاله أن وارسو، عاصمة بلاده، تعرضت للتدمير مرات عديدة، وأن النازيين غزوها وأخذوا اليهود البولنديين فيها إلى معسكرات الاعتقال. قال إن بلده يؤكد «حق إسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة ومعترف بها». وقال إنه يتذكر هجوم «حماس» على «إسرائيل»، وختم بأن بلاده تدعم خطة ترامب.
 
 
لا جديد في قول البولندي. لكنه يؤكد بعض الملامح البارزة للتفكير السائد لدى التعامل مع القضية الفلسطينية، والتي تُصاغ في معزل عن مقدماتها ونتائجها. ومن العناصر المهمة لهذا التفكير الانتقائي الاجتزائي أن اليهود تعرضوا للسحق من النازيين في وارسو والكثير من المدن الأوروبية، ولذلك تعوضهم دولهم الأصلية– بولندا نتنياهو وأوكرانيا سموترتش- بإطلاق يد مواطنيها على ممتلكات ومصائر الآخرين، ثم ضمان حدود وأمن ما سرقوه. وبالطبع، لا يهم أن يُباد هؤلاء الآخرون وأن يتم تجريدهم من الخيارات سوى الخروج من التاريخ- كيف لا وهم مذنبون بجريرة أن النازية اضطهدت اليهود؟ هذا هو المنطق المقلوب على رأسه الذي تبرر به أوروبا مصادقتها على منح وطن الفلسطينيين لليهود ومباركته بقرار دولي، ثم دعمها لإدامة حرمان الفلسطينيين من الدولة والحقوق– وبالتأكيد دعمها لـ»خطة ترامب» (البعض يسميها «خطة بلير»، والبعض «خطة نتنياهو») والتي لا يصعب الحكم على ما تدخره للفلسطينيين ومؤلفها واحد من هؤلاء أو هم جميعًا.
إذا ما أُخذت في السياق التاريخي لصراع الفلسطينيين الوجودي مع الاستعمار، فإنها ربما لا تكون مهمة بحد ذاتها بشكل خاص- إلا بقدر راهنيتها. إنها في النهاية نقطة في مسار طويل يؤمن الفلسطينيون –باعتبار هذا الإيمان خيارهم الوجودي الواقعي والحتمي والوحيد، حيث البديل هو الموت التاريخي- بأنه سيفضي بهم إلى التحرر. إنها لحظة لتوسيع حدود إدراك الفلسطيني لحالته الجمعية، والمواصلة على أساس هذا الإدراك. ثمة خسائر، وثمة أرباح. والخيار الواقعي للفلسطيني هو البناء على الربح وعدم الاستسلام لإحباط الخسائر. هذا ما سيقوله كل الناجحين في التجارة والدبلوماسية، وأي مشروع، عندما لا يكون القبول بالفشل خيارًا.
قرأت مقالًا لكاتب أجنبي لا أتذكر اسمه، يطرح سؤالًا: «ما الذي ستفعله إذا كنت شاهدًا على إبادة جماعية تحدث أمامك»؟ وكان الجواب بسيطًا: «إنه ما تفعله الآن». وسوف يجيب كل فرد في العالم، مهما وأينما كان موقعه وصفته، بأن ما يفعله في هذه اللحظة هو «الخيار الممكن». للبعض، عدم فعل شيء هو «الخيار الممكن». ولآخر، الخروج في مسيرة للبعض هو «الخيار الممكن». والمشاركة في أساطيل الحرية لآخرين هو «الخيار الواقعي» الذي ينبغي العمل لجعله ممكنًا. وحتى اختيار أحد التطوع لإقناع الآخرين بأن عدم فعل شيء هو الخيار الواقعي الممكن، هو «الخيار الواقعي» بالنسبة لهؤلاء. وفي كل ذلك، يمكن أن يرسلك اختيارك لتعريف «الممكن» في لحظة على أساس الاستسهال إلى تضييق ممكناتك، بحيث تتركك اختياراتك أخيرًا مع «خيار واقعي وحيد ممكن» يغلب أن لا يكون في صالحك. تأمل فقط كيف تُطرح «إسرائيل الكبرى» اليوم كإمكانية واقعية!
عموماً، ما يحاول الجميع تجنبه هو تذكر المقدمات والسياقات التي تجعل من موقف ما «الخيار الواقعي الوحيد الممكن». إن مثل هذا الخيار يُقدَّم– لتبرير التهرب من المسؤولية الأخلاقية، بل البراغماتية- على أنه مُعطى، قدَري، حتمي بطبيعته، بينما يتم إسقاط أي عنصر للوكالة الإنسانية، والعناصر الدنيوية، والاختيارات الواعية السابقة التي جعلته «الوحيد الممكن». هكذا يتم تحييد وتقويض صلة الحكم الأخلاقي الأساسي: الخيار العادل.
في كل أطوار القضية الفلسطينية كان ثمة بدائل عن «الخيار الواقعي الوحيد»، والتي لم تُطرح لأن الأقوياء وصفوها، كاختيار، بأنها غير ممكنة، أو حتى غير مشروعة. مثلًا، كان البديل عن «خطة التقسيم»، لو كان الحكَم قاضيا نزيها وعادلا، أو هيئة محلفين أخلاقية وعادلة، هو ضمان سيادة المهاجرين اليهود في فلسطين الشخصية، وليس السياسية، على الأراضي والأملاك التي اشتروها أو وهبها لهم أصحابها الأصليون بالاتفاق والتراضي فقط، وإعادة ما سُرق بالقوة لأصحابه ومعاقبة السارق والقاتل.
كان البديل عن «حل الدولتين» هو تفكيك نظام الفصل العنصري المدان عالميًا كنظام حكم، وتثبيت حق العودة الفلسطيني المكرس في قرار لمجلس الأمن، وإقامة نظام في فلسطين قائم على المساواة في الواجبات والحقوق لكل سكان ما بين النهر والبحر. هذا ما يمكن الدفاع عنه كأقل واجب– حتى مع أنه لا يعوض الفلسطينيين عن شهدائهم وتهجيرهم وعذاباتهم في المنافي والسجون، وتجرع سم تقاسم وطنهم مع غرباء.
وفي حالة غزة الحالية أيضًا، ثمة بديل عادل أيضًا غير مكافأة المستعمِر صاحب الإبادات الجماعية ومعاقبة المستعمَرين على مقاومتهم العادلة من أجل الحرية: معاقبة الكيان على إبادته وجرائمه الموصوفة في القانون الدولي، وإجباره على وقف الحرب، والانسحاب فورًا من القطاع – وربما باقي الأراضي الفلسطينية تنفيذًا لحكم «محكمة العدل الدولية» و»محكمة الجنايات الدولية»، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة. وثمة مقاطعة الكيان، وعزله، وحظر الأسلحة عنه، ومحاكمة مجرميه، ووقف أي تعاملات معه، حتى يمتثل للقانون الدولي.
أيًا يكن، يستطيع أي كيان أو فرد على هذا الكوكب أن يفاوض «العادل» و»الممكن» ويفاضل بينهما– إلا الفلسطيني. لا يستطيع الفلسطيني أن يتنازل عن «العادل» لأن أي شيء دونه يعني– حرفيًا- قطع جزء من لحمه وبتر جزء من كيانه الحيوي وهو حي– على طريقة شيلوخ شكسبير- ذهابًا به إلى حتفه الذي يُجعل محتومًا. لأنه لا يحكم من موقع مشاهد لديه ترف وزن خياراته بميزان مصالحه وانحيازاته. ولأنه صاحب مطلب عادل: تطبيق العادل الذي جُعل غير ممكن بقرارات غير أخلاقية؛ وعمل ما يمكن عمله– ولا يتم عمله بقرار اعتباره «غير ممكن»- لجعل العدل خيارًا.