الغد
ميخائيل بن يائير* - (هآرتس بالعربي) 2025/10/7
لم يكن إسهام الشعب اليهودي في الحضارة الإنسانية يوما بالسيف ولا من خلال السيطرة بالقوة. ولم تترك سيادته السياسية في هذه الأرض في الماضي أثرا إيجابيا يُذكر، لا على الشعب اليهودي نفسه ولا على الحضارة الإنسانية.
لن يفضي الاندفاع السياسي المتمثل في موجة الاعتراف بدولة فلسطين إلى إنهاء الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، لسببين جوهريين: أولهما أن إسرائيل، مهما كان شكل حكومتها، لن تسمح بقيام دولة فلسطينية إلا إذا كانت هذه دولة عاجزة، أقرب إلى كيان حكم ذاتي محدود، يخضع بالكامل للسيطرة الأمنية الإسرائيلية.
وحتى لو أقيمت فلسطين منزوعة السلاح، سوف يظل الفارق شاسعا بين الدولتين: فالأولى قوة إقليمية، جيشها من بين الأقوى في العالم واقتصادها متين ومزدهر؛ والثانية مجرد دويلة هشة تعيش في ظل جارتها المهيمنة.
مثل هذا الواقع، سوف يكون القوميون في الدولة الأقوى بشكل حتمي أمام إغواء السعي إلى تقليص ما تبقى من سيادة الدولة الأضعف على أجزاء من أرض فلسطين التاريخية. والنتيجة الحتمية: سيكون قيام دولة فلسطينية مستقلة أمرا مشكوكا فيه؛ والأكثر استحقاقا للشك هو الاعتقاد بأن قيامها سيكون مدخلا لجلب الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني إلى نهاية.
سيكون الحل الأمثل، في رأيي، هو اتفاق سياسي يفضي إلى كبح الطموحات القومية لدى الشعبين كليهما؛ اتفاق يفضي إلى قيام دولة ثنائية القومية يعيش فيها أبناء الشعبين معا، في مجتمع مشترك ومتساوٍ، يتعاونون في إطار مؤسسات دولة موحدة -برلمان، وحكومة، وسلطة قضائية مشتركة. اتفاق يفضي إلى تفكيك القوة العسكرية القائمة، واستبدالها بقوة شرطة موحدة تتولى حماية جميع مواطني الدولة المشتركة من دون تمييز.
يبدو هذا التصور ضربا من أحلام آخر الزمان، لكنني أرى أنه ليس هناك أي حل آخر يمكن أن يقود، في الواقع الجيوسياسي الراهن، إلى إنهاء حقيقي للصراع الناشئ من تصادم حركتين قوميتين تتنافسان على السيادة على شريط واحد ضيق من الأرض. لكي نُسوي هذا النزاع، وبافتراض أن الشعبين سيستمران في العيش على هذه الأرض، لا بد من إنهاء الطموحات إلى السيطرة الكاملة على الأرض من قلوب الطرفين. وبدلا من أن تبقى الأرض مقسمة إلى رقعة تتقاتل عليها قوميتان كل من أجل امتلاك أكبر قدر ممكن من الحيز، يجب أن نصوغ أرضا مشتركة وفضاء واحدا يضمن الوجود المتساوي لكلا الشعبين.
إذا قال أحد إن هناك خشية من بلقنة البلد، فإن الإجابة مزدوجة: إن الوضع القائم في هذه الأرض منذ ثمانية وسبعين عاما ليس أفضل حالا؛ في ظل الانتداب البريطاني، بل وحتى في العهد العثماني الذي سبقه، عاش الشعبان، في المجمل، في حالة من التعايش والهدوء النسبي. وستكون الوصفة الحقيقية لحياة مشتركة ومتساوية هي التخلص من النزعة القائمة لدى كل من الحركتين القوميتين إلى الهيمنة على الأخرى وعلى الأرض المشتركة بينهما. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا في ظل دولة ثنائية القومية، مشتركة ومتساوية.
اسمحوا لي أن أقول بضع كلمات عن مسألة السيادة السياسية للشعب اليهودي في أرض إسرائيل.
وربما يُنظر إلي ككافر أو مارق، لكنني سأقول رأيي بصراحة: لم يكن إسهام الشعب اليهودي في الحضارة الإنسانية يوما بالسيف ولا من خلال السيطرة بالقوة. ولم تترك سيادته السياسية في هذه الأرض في الماضي أثرا إيجابيا يذكر، لا على الشعب اليهودي نفسه ولا على الحضارة الإنسانية، ومن المشكوك فيه أن يكون الوضع مختلفا اليوم. إن القيمة الحقيقية لمساهمة الشعب اليهودي تكمن في الأخلاق، والعدالة، والسلام، والإنسانية، والرحمة. وهذه القيم لا تتحقق على طريقة إسبرطة القائمة على القوة والدمار، وإنما على نهج أثينا، طريق البناء والإبداع.
يبدو لي أنه في الجدل الذي دار بين أحد هاعام -ولاحقا أتباع حركة "بريت شالوم"- وبين أنصار الصهيونية السياسية، كان الفريق الأول هو المحق. ليس بالقوة ولا بالهيمنة على شعب آخر نضمن بقاءنا أو نُغني الحضارة الإنسانية، بل من خلال تجسيد القيم الإنسانية العالمية التي يحملها الشعب اليهودي نسهم في الحضارة الإنسانية ونصون وجودنا في هذه الأرض.
*ميخائيل بن يائير Michael Ben-Yair: قاضٍ ومحامٍ إسرائيلي بارز، شغل منصب المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية بين العامين 1993 و1996 خلال فترة حكومة إسحاق رابين، وكان من الشخصيات القانونية المؤثرة في صياغة السياسات القانونية للدولة في تلك المرحلة. بعد خدمته في وزارة العدل، عُين قاضيا في "محكمة القدس الجزئية". عُرف لاحقا بمواقفه الناقدة للاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكتب مقالات وتصريحات وصف فيها إسرائيل بأنها أصبحت دولة أبارتهايد تمارس سياسات استعمارية ضد الفلسطينيين، داعيا إلى إنهاء الاحتلال وتحقيق تسوية عادلة. وهو من الأصوات النادرة داخل المؤسسة القانونية الإسرائيلية التي تبنت مواقف ضميرية وإنسانية مخالفة للتيار السائد.