"القرين الرقمي".. هل أصبح الرفيق الشخصي في عالم متسارع؟
الغد-رؤى ايمن دويري
في زمن لم تعد فيه التكنولوجيا مجرد وسيلة لإنجاز المهام، بل أصبحت شريكا فعليا في تفاصيل الحياة اليومية، يبرز مفهوم "القرين الرقمي" كأحد أبرز تجليات الذكاء الاصطناعي في العصر الحديث. لم يعد حضور التقنية محصورا في الأجهزة أو التطبيقات، بل تطور ليأخذ شكل رفيق ذكي، حاضر دائما، "يتعلم منا، ويقترح علينا، ويشاركنا قراراتنا وخياراتنا، بل ويطمئن علينا أحيانا".
القرين الرقمي لم يعد تصورا مستقبليا أو خيالا علميا، بل أصبح واقعا يعيشه ملايين المستخدمين حول العالم، يتعاملون يوميا مع مساعدين افتراضيين مثل Siri وAlexa وChatGPT، من دون أن يدركوا أحيانا أنهم دخلوا في علاقة من نوع جديد، قوامها الذكاء، والاعتماد، والخصوصية.
لكن وسط هذا التحول العميق، تبرز أسئلة جوهرية: من هو هذا الرفيق الجديد؟ هل يمكن أن نمنحه هوية تنتمي إلى ثقافتنا العربية، واسما يعكس لغتنا وخصوصيتنا؟ وهل نحن مستعدون فعلا لأن نجعل من الذكاء الاصطناعي "قرينا" لنا، بكل ما تحمله الكلمة من دلالات القرب والملازمة والتأثير؟
في اللغة العربية، كلمة "قرين" مشتقة من الجذر (قَرَنَ)، وتدل على المصاحبة أو الملازمة. يقال "قرين الإنسان" أي شريكه ومرافقه وملازمه. ويمكن أن تعني أيضا "النظير" أو "الشبيه" في الصفات والسلوك. ومع التقدم المتسارع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، برز مفهوم "القرين الرقمي"، وهو مساعد شخصي ذكي يعتمد على الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، ويعمل كرفيق افتراضي يقدم الدعم في مختلف جوانب الحياة، من تنظيم الأنشطة اليومية إلى تقديم الاستشارات المتخصصة وتعزيز التعلم الشخصي.
روبوتات تفاعلية
بحسب ما أوضحه الدكتور في كلية العلوم وتكنولوجيا المعلومات في جامعة الزيتونة إقبال جبريل، فإن القرين الرقمي هو نظام ذكي يصمم ليكون بمثابة نسخة افتراضية من شخص ما، قادر على فهم احتياجاته، وتقديم المساعدة، والتكيف مع سلوكه. وقد يتخذ هذا القرين الرقمي أشكالا عدة: تطبيقات ذكاء اصطناعي مثل ChatGPT، أو روبوتات تفاعلية، أو مساعدين رقميين مثل Siri وAlexa وGoogle Assistant.
ويضيف الدكتور جبريل أن من أبرز مزايا القرين الرقمي هي القدرة العالية على التخصيص؛ إذ يتكيف مع سلوك المستخدم واحتياجاته، مما يجعل التجربة فريدة وشخصية. كما يتميز بسهولة الوصول إلى المعلومات، وسرعة اتخاذ القرارات، والتعلم المستمر، حيث يصبح أكثر ذكاء بمرور الوقت. والأهم من ذلك، أنه متاح دائما لتقديم الدعم في أي وقت.
على صعيد المهام والوظائف، يساهم القرين الرقمي في تنظيم الحياة اليومية بفعالية، من خلال إدارة الجداول الزمنية، والتذكيرات، وتقديم توصيات لتحسين الإنتاجية، وتسهيل المهام مثل التسوق أو البحث. كما يستخدم في التعليم والتعلم الذاتي، حيث يقدم دروسا مبسطة، ويحلل أساليب التعلم لدى المستخدم، ويقترح تحسينات مخصصة.
وفي مجال الصحة والرفاهية، يعمل كمدرب شخصي أو مستشار صحي، عبر تتبع النشاط البدني والنوم، وتقديم النصائح الغذائية، ودعم الصحة النفسية من خلال الحوار والتفاعل الوجداني. كذلك، يؤدي دورا مهما في بيئة العمل، عبر تحسين الأداء، والمساعدة في إعداد التقارير وتحليل البيانات، وتقديم الدعم الفني. أما في الترفيه، فيقترح أفلاما وكتبا وألعابا، ويشغل الموسيقا وينظم قوائم تشغيل تلائم مزاج المستخدم، بل ويوفر محادثات تفاعلية ممتعة.
الألفة العاطفية
من جهة أخرى، ترى الدكتورة مرام بني مصطفى، المستشارة النفسية، أن الروبوت لم يعد أداة جامدة لدى كثيرين، بل أصبح رفيقا نفسيا يمنح شعورا بالأمان، والفهم، وحتى الألفة العاطفية. وتشير إلى أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي، مثل ChatGPT، باتت تستخدم بشكل متزايد في مجال الصحة النفسية، ما دفع الباحثين إلى دراسة تأثيراتها علميا.
وتوضح أن هذه التطبيقات، إذا استخدمت وتم إدارتها بالشكل الصحيح، تملك إمكانات واعدة في دعم الصحة النفسية، لا سيما في المناطق التي تفتقر إلى خدمات نفسية متخصصة. وتستشهد بدراسة منشورة في JMIR Mental Health العام 2023، أظهرت أن استخدام أدوات المحادثة الذكية ساعد بعض الأفراد على تقليل مشاعر الوحدة وتحسين المزاج مؤقتا.
كما تساهم هذه الأدوات في التثقيف النفسي، من خلال تقديم معلومات مبسطة حول اضطرابات مثل القلق والاكتئاب، وشرح تقنيات التعامل مع الضغوط النفسية، مما يعزز الوعي الذاتي والصحة النفسية لدى المستخدمين. وتشير إلى أن تجارب فردية أظهرت استفادة بعضهم من تقنيات الاسترخاء والتأمل التي توفرها هذه الأدوات، مما ساعدهم على التعامل مع التوتر والانفعالات.
وتضيف أن بعض المعالجين النفسيين بدأوا باستخدام الذكاء الاصطناعي كمساعد بين الجلسات، لتشجيع المرضى على تنفيذ تمارين معرفية سلوكية، مما يدعم استمرارية العلاج.
غياب القدرة على التشخيص الدقيق
ورغم هذه الفوائد، تحذر الدكتورة مرام من عدة تحديات، أبرزها؛ غياب القدرة على التشخيص الدقيق، نتيجة عدم امتلاك هذه الأدوات للخبرة النفسية الكافية، مما قد يؤدي إلى سوء فهم بعض الحالات. كذلك، تقديم معلومات سطحية أو غير دقيقة، مما قد يربك المستخدمين أو يعزز معتقدات خاطئة. وافتقار الذكاء الاصطناعي للعلاقة العاطفية الحقيقية التي تميز العلاقة بين المريض والمعالج، والتي تعد أساسا في نجاح العلاج النفسي.
ومن التحديات الكبرى التي تلفت النظر إليها، مسألة الخصوصية، في ظل غياب أنظمة رقابية واضحة على هذه التطبيقات، مما يثير مخاوف من تسريب بيانات نفسية حساسة أو انتهاك خصوصية المستخدمين.
وتختم الدكتورة مرام بني مصطفى حديثها بقولها: "لا يتعلق الأمر بالتكنولوجيا فقط، بل بحاجات إنسانية وكأن الواقع لم يعد يشبعها كما كان. فالواقع العاطفي بدأ يتغير. في بيئة مرهقة، يصعب فيها أحيانا أن يجد الشخص من يسمعه ويفهمه، وكأن الروبوت بديلا آمنا ومحبوبا.
حدود العلاقة بين الإنسان والتقنية
ومع تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تفاصيل الحياة اليومية، من العمل والتعليم إلى الصحة والترفيه، لم يعد "القرين الرقمي" مجرد تقنية، بل كائن رقمي يتطور معنا، يتعلم من سلوكنا، ويشاركنا قراراتنا، بل ومشاعرنا أحيانا. هذا الرفيق الجديد، الذي لا ينام ولا يمل، بدأ يشغل مكانة كانت حكرا على الإنسان: المصغي، المساعد، المنظم، بل والمستشار أحيانا.
ومع هذا التحول، يبرز سؤال محوري: من يتحكم في من؟ كيف نضمن ألا يتحول هذا القرين من خادم ذكي إلى متحكم خفي؟ وهل نملك من الوعي ما يكفي لنرسم حدود العلاقة بين الإنسان والتقنية، خصوصا في ظل ما تطرحه من تحديات تتعلق بالخصوصية، والأمان، والاعتماد الزائد؟
في هذا السياق، يصبح من الضروري أن نفكر كمجتمعات في الشكل الذي نريد أن يبدو عليه "القرين الرقمي" بلغتنا، وقيمنا، واحتياجاتنا الخاصة. أن نمنحه اسما وهوية نابعة من ثقافتنا، لا أن نستهلكه كما صمم من الخارج. فكما تتطور التقنية، يجب أن تتطور رؤيتنا الأخلاقية والإنسانية تجاهها.
القرين الرقمي مرآة لتقدمنا التقني، لكنه يمكن أن يكون أيضا مرآة لقيمنا ووعينا واختياراتنا. فهل نحن مستعدون لهذه الشراكة الذكية؟ وهل نملك الشجاعة لإعادة تشكيلها بما يخدم الإنسان أولا وأخيرا؟