الدستور-الأستاذ الدكتور مجد الدين خمش
الخوارزميات ((Algorithms مجموعة من التعليمات والأوامر التنفيذية، والخطوات المتسلسلة المنطقية اللازمة لتنفيذ مهمة ما. ثم تقوم البرمجة بما تحتويه من تعليمات، وأوامر بتحويل الخوارزمية إلى لغة تخزّن في الآلة (الكومبيوتر) يستطيع قراءاتها والالتزام بها وتقديمها للمستقبِل على شكل لغة متداولة، وصور، وموسيقى، وبيانات إحصائية، وأخبار وتحليلات، وأفلام وفيديوهات. وينسب المصطلح إلى الخوارزمي، محمد بن موسى الذي عاش في القرن الثامن الميلادي وابتكر علم الجبر والخوارزميات، ونظرية المثلثات وابتكر بناءً عليها الأرقام العربية. وعلى منوال الخوارزميات يقدم الكتاب مجموعات من الجمل القصيرة، القوية على شكل قضايا منطقية تقود إلى المعنى المقصود. كما يوظّف لغة شاعرية موسيقية، فلسفية تشعرنا أننا نقرأ قصائد شعرية حديثة، لتدعيم هذا المعنى. وهو، إن الإنسان أصبح أسيرًا للخوارزميات فهي تتسلل إلى وعيه، وتهيمن على تفكيره ووقته، وتصادر الزمن، وتعيد تشكيل الذاكرة واللحظة، والذات والمستقبل حين تمنحنا وهم الاختيار. وذلك بعد أن تحوّلت السلطة في العصر الرقمي من شكلها السياسي والأيديولوجي إلى بنية ناعمة، مموّهة، شاملة. ويتم ذلك من خلال آليات تنميط الوعي المعروفة، خصوصًا التماهي مع الذات، والتكرار الذي يجعل من الوهم حقيقة، والنعومة، وصنع الإجماع، والتوجيه ثم الانسحاب، والسرعة التي تقتل السؤال وتقدم وهم العمل والفهم. إضافة إلى تعدّد الشاشات التي تعني تفتيت الذات. وكذلك المكافئات الخوارزمية مثل اللايكات، وأعداد الكومنتس، وأعداد الإيموجيه، وإعادة ذكريات من الماضي، وتذكيرك بتاريخ ميلادك، والتحوّل إلى ترند. ويقرّر المؤلف رائد سمور «عندما تظن نفسك واعيًا تكتشف أنك مبرمجًا».
لذلك كله يدعو سمّور للمقاومة والتحرّر من سيطرة الخوارزميات عن طريق التساؤل والنقد، فهو يقرر: « كتابي هو دعوة لاسترداد الذات بعد أن فُقدت في الخوارزميات»، ومع ذلك لا يدعو إلى نبذ التقنية، بل يدعو إلى تقبلها، ولكن بحس نقدي. ولتأصيل موقفه ودعوته الطموحة هذه يستحضر طروحات أنطونيو غرامشي، الماركسية التي تؤكد أن الهيمنة الثقافية الرأسمالية تمارس السلطة من خلال القوة المادية والإكراه، لكنها تلجأ أيضًا لأساليب ناعمة مثل الخطابات الإعلامية، وتوافقات المجتمع المدني الأيديولوجية والاجتماعية. فتصنيع الموافقة من خلال هذه الآليات تجعل الهيمنة تبدو طبيعية، وشرعية مما يسهل تقبلها، والإذعان لها. وهذا التصنيع الثقافي يمارس أيضًا من خلال الأحزاب السياسية، ومراكز القوى الثقافية المتصارعة في المجتمع. ويجد المعارضة من قبل المثقفين العضويين الذين يمثلون مصالح وأهداف طبقتهم الاجتماعية، ويخوضون النضال الثقافي ضد المثقفين التقليديين المتواطئين مع القوى المحافظة التقليدية، ويستمرون في حرب خنادق معهم للتفوق الأيديولوجي والثقافي. متحالفون مع الحركات الاجتماعية المناهضة للهيمنة، خصوصًا الحركات الطلابية، والليبرالية، والحركات النسوية المناهضة للذكورية لإعادة تعريف المعايير والقيم الاجتماعية بما يدعم المواطنة والمساواة في الامتيازات والواجبات مستعينون في ذلك بآليات تصنيع التوافق الاجتماعي والسياسي.
ويلتقي سمّور مع نيكولاس كار، مؤلف كتاب (السطحيون: ماذا تفعل الإنترنت بأدمغتنا)، المنشور في العام 2010، حيث يرى أن التكنولوجيا مفيدة، لكن يجب التعامل معها بحذر. ويمثّل الكتاب تحذيرًا علميًا وثقافيًا من أن كثافة استخدام الإنترنت قد تجعلنا أقل ممارسة للتفكير الجاد، وأقل تفاعلا عميقا مع المعرفة. وهو بالتالي يدعو للمزيد من الوعي الرقمي، وإعادة التوازن بين السرعة والتركيز، والتنقل والتأمل. وكان هربرت ماركيوز، الفيلسوف الألماني قد بيّن في كتابه (الإنسان ذو البعد الواحد) سطوة الإعلام في ترسيخ المجتمع الاستهلاكي. كما يلتقي مع مارشال ماكلوهان في كتاب (فهم وسائل الإعلام: امتدادات الإنسان) فهو بالرغم من إبرازه لإيجابيات وسائل الإعلام المختلفة والإنترنت في تشكيل الثقافة والوعي الفردي، والعالمي المشترك، مقدمًا مفهوم « القرية العالمية» الناتجة عن قدرة وسائل الإعلام على تعميم المعلومات والمعرفة، وحفز الاهتمام بالقضايا والمشكلات ذات الطبيعة الكونية. إلا أنه يوضّح أن أهمية الوسيلة الإعلامية قد تتجاوز أهمية المحتوى الذي تقدمه من حيث تأثيرها في طريقة تفكيرنا وسلوكنا. حيث تشكل وسيلة الإعلام الرائجة ما نراه، وتحدد كيفية رؤيتنا له، فهي نافذتنا على العالم وأنفسنا. فتغيّرنا نتيجة لذلك بالتدريج أفرادًا وطبقات، ومجتمعات. كما ترى كاثي أونيل في كتابها (أسلحة التدمير الرياضي) من أن منصات التواصل الاجتماعي يمكن أن تكون أداة تضليل منهجية تقدم الوهم بديلاً عن الحقيقة، وتحول الإنسان من كائن مفكر إلى مستهلك مسترخٍ يعيش في قفص الإشباع ورغد العيش الوفير. كما تحذّر من خوارزميات مخادعة، أو خطيرة تعمل على إنتاج طفرات جينية في الفيروسات أو البشر قد تكون ضارة، وخطيرة.
ومهما يكن من أمر، فإن المبالغة في النوستالجيا لمجتمع ما قبل التكنولوجيا الميكانيكية والرقمية قد تتحول إلى حركة تسبّب معاناة الإنسان من التوتر والانقسام، وضبابية الأهداف. فالمؤشرات الاقتصادية والرقمية العالمية تؤكد بوضوح الاتجاه الصاعد لانتشار التكنولوجيا، خصوصًا الرقمية منها في كل مناحي الحياة المجتمعية والفردية. وتشير أدبيات العلوم الاجتماعية المعاصرة إلى سعي الحكومات العربية المعاصرة لابتكار استراتيجيات لتبني وتصنيع الذكاء الاصطناعي لاستثمار قدراتها الذاتية، وتراثها العلمي والتجاري، واتفاقيات العولمة، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وتحالفاتها الاقتصادية والسياسية اقليميًا وعالميًا لتطوير اقتصاداتها ومجتمعاتها لضمان النمو المستدام، وتحقيق رغد العيش لمواطنيها. والتركيز على تعظيم المشاركة الفاعلة في التجارة الدولية للصعود الحضاري من جديد. ذلك أن هذه الاستراتيجيات والقنوات التنموية الحديثة تمثّل الأمل لغالبية الدول العربية لتحقيق تراكم الثروة والسلطة، والمكانة الدولية، والإسهام الحضاري عالميًا من جديد بعد طول انقطاع.
وقد وصلت الثورة الصناعية الرابعة التي تدعم القدرات الإنتاجية والتصديرية للدول بقيادة الذكاء الاصطناعي، والروبوتات الذكية مما ينعكس إيجابيًا على الدخل القومي، ومستوى دخل الفرد، ورفاهية الحياة التي يتمتع بها. وخلال عقد أو أكثر قليلا ستستقبل البشرية الثورة الصناعية الخامسة حيث ستصبح الروبوتات الذكية قادرة على أن تعلّم نفسها بنفسها، وعندها سينشغل الإنسان في ابتكار تكنولوجيا برمجية جديدة للسيطرة على الأمور من خلال الخوارزميات التي تضع إطاعة الأوامر قبل إتمام المهمة.