اجتماعات العقبة في روما.. الأردن يقود معركة الفكر والأمن*حسن الدعجة
الغد
في ظلّ التحديات الأمنية والإقليمية المتصاعدة التي تشهدها المنطقة والعالم، تبرز مبادرة «اجتماعات العقبة» كإحدى أهم الجهود الملكية الأردنية الهادفة إلى تعزيز التعاون الدولي في مكافحة الإرهاب والتطرف. وقد جاءت الجولة الأخيرة من هذه الاجتماعات، التي عقدت في العاصمة الإيطالية روما، لتؤكد على الدور الريادي للأردن بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني في دعم الأمن والسلم العالميين، حيث ترأس جلالته الاجتماع إلى جانب رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، بمشاركة واسعة من دول ومنظمات دولية معنية بمكافحة الإرهاب.
أُطلقت مبادرة «اجتماعات العقبة» قبل نحو عقد من الزمن برؤية ملكية استشرافية عميقة أطلقها جلالة الملك عبد الله الثاني، لتكون إطارًا عمليًا لتنسيق الجهود الدولية في مكافحة الإرهاب والتطرف. جاءت هذه المبادرة انطلاقًا من قناعة راسخة بأن الإرهاب لا يعترف بالحدود، وأن مواجهته تتطلب تعاونًا عالميًا شاملًا.
بدأت الاجتماعات في مدينة العقبة الأردنية، لتتحول سريعًا إلى منصة عالمية تجمع قادة سياسيين وخبراء عسكريين وأمنيين من مختلف الدول والمنظمات الإقليمية والدولية.
وتوسعت لتُعقد في عدد من العواصم العالمية مثل مدريد، تيرانا، لاهاي، واشنطن، نيقوسيا، والآن روما، حيث ركّز كل اجتماع على منطقة معينة بحسب طبيعة التحديات الأمنية فيها، مما منح المبادرة طابعًا عمليًا ومرنًا في معالجة القضايا الميدانية والفكرية على حد سواء.
تتمثل أهمية «اجتماعات العقبة» في كونها لا تقتصر على تنسيق العمل الأمني والاستخباراتي، بل تتجاوز ذلك إلى تعزيز الأمن الفكري ونشر ثقافة الاعتدال والحوار، والتصدي للأسباب الجذرية للتطرف مثل الفقر والبطالة والتهميش. إنها مبادرة تجمع بين الفكر والأمن والتنمية في إطارٍ متكامل، ما يجعلها نموذجًا عالميًا في بناء إستراتيجيات وقائية ومستدامة لمكافحة الإرهاب وحماية المجتمعات من خطر التطرف العابر للحدود. أهميتها تكمن في كونها لا تقتصر على البعد الأمني فقط، بل تمتد إلى بناء جسور فكرية وإنسانية تُعزز الأمن الشامل، إذ تجمع بين الوقاية الفكرية والتنمية المستدامة والعمل الاستخباراتي لتشكل نموذجًا عالميًا في محاربة التطرف والإرهاب. في جولة روما، ركزت الاجتماعات على منطقة غرب أفريقيا التي تواجه تحديات أمنية متنامية بسبب انتشار الجماعات الإرهابية في بعض دول الساحل، وتمحورت النقاشات حول سبل تعزيز التنسيق بين الدول المتضررة والدول الداعمة، بما يشمل تطوير التعاون الاستخباراتي وتبادل المعلومات وتعزيز القدرات المحلية في مجالات الأمن والعدالة. وقد شاركت في الاجتماعات اثنتان وعشرون دولة، إضافة إلى ممثلين عن منظمات دولية كالأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو، والإنتربول، ما يعكس الثقة العالية بالدور الأردني وقدرته على جمع الأطراف المختلفة على طاولة واحدة.
تشير التقارير الحديثة إلى أن منطقة الساحل وغرب إفريقيا تمثل اليوم ما يقارب
43 % من الوفيات الناجمة عن الإرهاب في العالم، بينما تتحمل دول إفريقيا جنوب الصحراء نحو 51 % من الضحايا العالميين المرتبطين بالإرهاب. هذه الأرقام تعكس حجم التهديد الذي يواجهه ملايين المدنيين في تلك المناطق، حيث ارتفع عدد الضحايا في السنوات الأخيرة بشكل ملحوظ، نتيجة لتزايد نشاط الجماعات المتطرفة مثل «داعش في الصحراء الكبرى» و»جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» المرتبطة بتنظيم القاعدة. وتشهد دول مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو ونيجيريا هجمات متكررة تستهدف المدنيين والعسكريين على حد سواء، ما يفاقم الأزمات الإنسانية والأمنية في المنطقة.
في هذا السياق، تتجلى أهمية الجهود الأردنية في التأكيد على أن محاربة الإرهاب لا يمكن أن تقتصر على الأدوات العسكرية والأمنية، بل يجب أن تشمل أيضًا البعد الفكري والمعرفي من خلال «نظرية الأمن الفكري» لرائدها البروفيسور حسن الدعجة. حيث تقوم هذه النظرية على مبدأ أن الفكر المتطرف لا يُهزم بالقوة وحدها، وإنما من خلال تحصين العقول بالوعي والمعرفة والفكر السليم. الأمن الفكري هو حالة من الحصانة الفكرية والاجتماعية التي تمنع تغلغل الأفكار المنحرفة إلى عقول الشباب والمجتمعات، وتُعزّز الانتماء والولاء للوطن وقيم التسامح والاعتدال.
يرتكز الأمن الفكري على عدة محاور أساسية، أبرزها تطوير التعليم ليكون أداة لبناء الفكر النقدي الواعي القادر على التمييز بين الخطاب الديني الصحيح والدعوات المتطرفة، ودعم الإعلام الهادف الذي يروّج لخطاب الاعتدال ويردّ على حملات التضليل الإلكتروني، وتمكين المؤسسات الدينية من نشر فتاوى متوازنة تقوم على الوسطية وتُسهم في ترسيخ ثقافة الحوار والانفتاح. كما يشمل الأمن الفكري دور الأسرة والمدرسة والمجتمع في التنشئة السليمة، وبناء الوعي الجمعي ضد دعاة الكراهية والعنف.
لقد أدركت القيادة الأردنية أن التطرف لا يولد في فراغ، وإنما نتيجة فراغ فكري وقيمي، ومن هنا جاءت توجيهات جلالة الملك عبد الله الثاني لدمج مقاربة الأمن الفكري ضمن الإطار العام لمبادرة «اجتماعات العقبة»، بحيث لا تقتصر المناقشات على الأمن الميداني فقط، بل تمتد لتشمل محاربة الفكر المتطرف من جذوره. فالمعركة ضد الإرهاب هي في جوهرها معركة فكرية وثقافية قبل أن تكون عسكرية، ويجب أن تُخاض بالعلم والمعرفة والوعي، بنفس القدر من التصميم الذي تُخاض به بالسلاح.
إن اجتماع العقبة في روما يعكس نضوج الرؤية الأردنية الشاملة للأمن الإنساني، إذ لا يمكن تحقيق الاستقرار في العالم دون معالجة أسباب التطرف من خلال نشر الفكر المعتدل والتنمية والتعليم. هذه المقاربة المتكاملة بين الأمن الفكري والأمن الميداني تجعل من مبادرة العقبة نموذجًا عالميًا في التعامل مع ظاهرة الإرهاب بشكل جذري ومستدام. وبذلك، يؤكد الأردن بقيادته الهاشمية أنه ليس فقط مركزًا إقليميًا للسلام، بل أيضًا مصدر فكرٍ وإنسانية يسعى إلى بناء عالم أكثر أمنًا واستقرارًا وعدلاً.