وقف النار في غزة.. سلام مؤقت أم خرق محتوم؟*حسن الدعجة
الغد
في المشهد الراهن، تبدو فرص وقف إطلاق النار في غزة رهينة توازن دقيق بين ضغط الواقع الإنساني المتدهور ورغبة الأطراف الإقليمية والدولية في تهدئة مستدامة، وبين الخشية من أن يؤدي أي اتفاق جديد إلى خروقات سريعة تعيد المنطقة إلى دائرة النار. فالمعادلة المعقدة تجمع بين حسابات إسرائيل السياسية والأمنية، وضغوط الفصائل الفلسطينية، واهتمامات الوسطاء الدوليين الساعين إلى تجنّب انفجار شامل يصعب احتواؤه لاحقًا.
الجهود التي تبذلها القاهرة والدوحة وواشنطن تركز حاليًا على بناء أرضية توافق ميداني يُتيح هدنة طويلة بما يكفي لإيصال المساعدات واستئناف الإعمار. لكن كل المؤشرات تفيد بأن الاتفاقات المقترحة لا تزال محاطة بشكوك كبيرة، خصوصًا بعد تراجع واشنطن عن ضماناتها السابقة لإسرائيل عقب إعلان الرئيس السابق دونالد ترامب تخليه عن أي التزامات أمنية مباشرة في حال تجدد التصعيد. هذا التراجع أعاد فتح الباب أمام إسرائيل لتتبنّى مقاربة أكثر حذرًا وأقل التزامًا بالضغوط الخارجية، مما زاد احتمالات أن تتعامل مع أي اتفاق كمرحلة مؤقتة لا كعهد مُلزم. ويمكن رؤيتها من خلال السيناريوهات أدناه:
السيناريو الأول يقوم على تهدئة محدودة، تُفرض تحت ضغط دولي كثيف، تمتد لأسابيع أو شهرين على الأكثر، تُفتح خلالها المعابر جزئيًا، ويُسمح بدخول المساعدات الإنسانية، مقابل توقف متبادل للعمليات العسكرية. مثل هذا السيناريو يوفر استراحة مؤقتة للأطراف، لكنه يبقى هشًّا للغاية إذا لم يترافق مع آليات رقابة فعّالة وضمانات واضحة. التجارب السابقة أظهرت أن وقف إطلاق النار في غزة غالبًا ما يُخرق سريعًا من جانب إسرائيل، سواء عبر عمليات استهداف محدودة بذريعة الرد على إطلاق نار أو من خلال تأخير إدخال المساعدات، وهو ما قد يُفهم في غزة كإشارة إلى أن الاتفاق لا يُلزمها فعليًا. ومع أن هذا النوع من التهدئة قد يُخفف المعاناة الإنسانية مؤقتًا ويُرضي الضغوط الدولية، فإنه في جوهره اتفاق «للتنفس» أكثر مما هو اتفاق للسلام، ويكاد يكون امتدادًا للواقع القائم لا كسرًا له.
السيناريو الثاني أكثر طموحًا، ويتضمن تهدئة موسعة تمتد لأشهر، تُصاغ ضمن خطة متدرجة نحو وقف دائم لإطلاق النار. في هذا الإطار يجري الحديث عن انسحاب جزئي للقوات الإسرائيلية من بعض مناطق القطاع، وإطلاق سراح الأسرى والمحتجزين، وتشكيل إدارة إنسانية أو إشراف دولي على الإعمار. تقوم هذه الصيغة على إشراف مباشر من الأمم المتحدة وبدعم مصري قطري، وتُرعى من واشنطن أو الاتحاد الأوروبي. نجاح مثل هذا المسار يتطلب إرادة سياسية إسرائيلية صلبة، وهو ما يبدو موضع شك في ظل اليمين الإسرائيلي المتشدد الذي يرى في أي انسحاب تنازلًا أمنيًا غير مقبول. في المقابل، الفصائل الفلسطينية قد تنظر إلى التهدئة كتكتيك وليس كتحول إستراتيجي، ما يجعل التزامها عرضة للانقسام الداخلي. ومع ذلك، يظل هذا السيناريو هو الأكثر قدرة على إنتاج استقرار نسبي إذا وُفّرت له ضمانات ملزمة ووجود مراقبين ميدانيين مستقلين قادرين على كشف الخروقات فور وقوعها.
السيناريو الثالث هو فشل الاتفاق أو انهياره السريع، وهو ما شهدته غزة في محطات كثيرة سابقة. في هذا الاحتمال، يتم الإعلان عن وقف لإطلاق النار ثم يبدأ التراجع عنه تدريجيًا مع تصاعد الاتهامات المتبادلة. إسرائيل قد تبادر إلى تنفيذ ضربات محدودة ضد أهداف داخل القطاع بحجة الردع الوقائي، ما يؤدي إلى رد فلسطيني واستئناف الدائرة ذاتها. غياب جهة ضامنة تمتلك سلطة حقيقية على الطرفين يجعل هذا السيناريو مرجحًا إذا لم يُبنَ الاتفاق على أساس واضح للالتزامات المتبادلة. كما أن ضعف الثقة بين الجانبين، والانقسامات داخل الساحة الفلسطينية، والتباين في مواقف الحكومة الإسرائيلية، تجعل أي تهدئة عرضة للانهيار في لحظة توتر واحدة.
إضافة إلى هذه التحديات، هناك عوامل خارجية يمكن أن تُرجّح أحد الاتجاهات على الآخر. الإدارة الأميركية الجديدة، ومعها حلفاؤها الأوروبيون، تسعى إلى تحقيق تهدئة تضمن لإسرائيل أمنها دون أن تتحول إلى احتلال دائم. لكن الموقف الأميركي المتذبذب، خصوصًا بعد تراجع الرئيس السابق دونالد ترامب عن التزامه السابق بدعم ضمانات أمنية لإسرائيل، أعاد الحسابات داخل تل أبيب، التي باتت أكثر حذرًا في التعويل على الدعم الخارجي في حال نشوب جولة جديدة. هذا التحول في المعادلة الدولية يُضعف ثقة إسرائيل في الغطاء الأميركي ويزيد من احتمال أن تتصرف بشكل أحادي إذا شعرت بأن أمنها مهدد. في المقابل، يدفع ذلك الوسطاء الإقليميين، خصوصًا مصر وقطر، إلى لعب أدوار أكثر فاعلية لملء الفراغ وضمان استمرار قنوات التهدئة.
المحصلة أن فرص التوصل إلى اتفاق تهدئة ليست معدومة، لكنها تظل محدودة وقابلة للانهيار عند أول اختبار ميداني. نجاحها يتوقف على ثلاثة شروط أساسية: أولها وجود ضمانات تنفيذ دولية صارمة تشرف على التزام الطرفين ببنود الاتفاق دون انتقائية. ثانيها تبني صيغة تدريجية مرنة تسمح بتقييم الأداء وتعديل البنود بدلًا من فرض اتفاق شامل يصعب الالتزام به دفعة واحدة. وثالثها توافر إرادة سياسية حقيقية لدى كل طرف لتغليب الاستقرار على الحسابات الداخلية أو الانتخابية.
من دون هذه الشروط، سيبقى وقف إطلاق النار مجرد محطة عابرة بين جولتين من الصراع، وقد يتحول الانتهاك الإسرائيلي، حتى لو كان محدودًا، إلى شرارة تُعيد المواجهة إلى نقطة الصفر. أما إذا أُحسن إدارة التهدئة بروح الشراكة الدولية والرقابة المستقلة، فقد تمثل بداية تحول حقيقي في معادلة غزة؛ من الحرب المتكررة إلى تفاهم هش لكنه قابل للبناء عليه، شرط أن يلتزم الجميع بأن الكلمة الأخيرة في غزة يجب أن تكون للحياة لا للسلاح.