الدلالات الدستورية لتواجد رئيس الوزراء في الميدان*أ. د. ليث كمال نصراوين
الراي
منذ تولّيه رئاسة الوزراء، لفت الدكتور جعفر حسان الأنظار بنمطٍ إداريّ مغايرٍ لأسلافه، يقوم على الحضور الميداني المباشر في مواقع العمل العام، لا سيّما في المدارس والمستشفيات والمرافق العامة. فقد اختار منذ البداية أن يكون في الميدان، يخاطب المواطنين مباشرةً، متفهمًا احتياجاتهم وهمومهم، في مشهدٍ غير مألوف يجسّد فكرة "الحكومة التي ترى وتُرى".
هذا الأسلوب يثير تساؤلاتٍ حول دلالاته الدستورية ومدى انسجامه مع مبدأ الاختصاص الفردي لكل وزير في إدارة شؤون وزارته. فالنظام البرلماني يقوم على مبدأ التخصّص الوظيفي، بحيث يتحمّل كل وزير المسؤولية الكاملة عن قطاعٍ محدّدٍ بعينه، ويُسأل سياسيًا عن أداء وزارته أمام مجلس النواب ورئيس الوزراء معًا.
أما رئيس الوزراء، فتُناط به مهمة رسم السياسة العامة لحكومته كما يتم تضمينها في البيان الوزاري، وتوجيه أعمال فريقه الوزاري نحو تحقيقها، من دون أن يحلّ محلّ الوزراء في صلاحياتهم الإدارية والفنية. فقد اعتبره المشرّع الدستوري المرجع الأعلى للوزراء جميعًا، إذ يتعيّن عليهم عرض أيّ مسألةٍ تتجاوز اختصاصهم عليه للفصل فيها، تطبيقًا لأحكام المادة (47/1) من الدستور.
ولتكريس مبدأ الولاية الكاملة للوزير على شؤون وزارته، يحرص الرئيس حسان دائمًا في زياراته الميدانية على اصطحاب الوزير المختص، بحيث يكون حاضرًا ومطّلعًا على مجريات الزيارة وما تؤول إليه من قرارات، وذلك في إطار تعزيز اختصاصه الفردي وفق أحكام الدستور.
وعليه، فإن الزيارات الميدانية لا تمثل تجاوزًا في الصلاحيات التنفيذية، فحين يصدر رئيس الوزراء تعليماته بصيانة مدرسةٍ أو تحسين خدماتٍ صحية، فإنه لا يباشر التنفيذ بنفسه، بل يُحيل المسؤولية إلى الوزير المختصّ لتنفيذ هذه القرارات. وبهذا تنتفي أيّ ازدواجيةٍ في الاختصاص التنفيذي من شأنها أن تُضعف مبدأ المشروعية الإدارية، ذلك أن الدستور، وإن منح رئيس الحكومة سلطة الإشراف العام، إلا أنه لم يمنحه سلطة الحلول محلّ الوزراء. وكلّ قرارٍ إداري يصدر عن جهةٍ غير مختصة يُعدّ مشوبًا بعيب عدم الاختصاص، وهو من العيوب التي تتعلق بالنظام العام والتي تُبطل القرار الإداري من منظور الفقه والقضاء الإداريين.
من هنا، يمكن النظر إلى زيارات رئيس الوزراء المتكرّرة بوصفها أداةً رقابيةً ميدانيةً عليا على أداء الجهاز التنفيذي والوزراء. فالمسؤولية السياسية للوزير أمام رئيس الوزراء تسبق مسؤوليته أمام البرلمان، لأن الرئيس هو من اختاره ابتداءً ووضع السياسة العامة للحكومة، وبالتالي يُفترض بوزرائه حسن تنفيذها.
وعليه، فإن نزول الرئيس إلى الميدان يحمل دلالتين واضحتين: أولًا، تقريب الحكومة من المواطن، وثانيًا، ترسيخ ثقافة المساءلة والجدّية في الأداء الوزاري. فمتابعة مخرجات هذه الزيارات تُعدّ وسيلةً أساسيةً لتقييم أداء الوزراء وفاعليتهم، تمهيدًا للإبقاء عليهم أو استبدالهم في أيّ تعديلٍ وزاريّ لاحق.
وإلى جانب ذلك، تتيح هذه الأنشطة الحكومية الميدانية ومتابعة تنفيذها بيئةً رقابيةً خصبةً لمجلس النواب، تمكّنه من متابعة مدى التزام الوزير بتنفيذ تعليمات رئيس الوزراء ومخرجات زياراته الميدانية. فإن قصّر أو توانى في التنفيذ، وجب على المجلس النيابي محاسبته وفق الأدوات الدستورية المتاحة، التي قد يصل مداها إلى طرح الثقة به وإجباره على الاستقالة.
كما تمتدّ التبعات الدستورية لهذه الزيارات لتشمل مساءلة رئيس الوزراء نفسه، إن هو لم يتابع تنفيذ نتائج جولاته في المحافظات والقرى، أو أبقى على وزيرٍ يتقاعس عن تنفيذ تعليماته أو يماطل في إخراجها إلى حيّز التطبيق.
وفي المقابل، فإن رئيس الوزراء لا يمارس مهامه بمعزلٍ عن الإطار الدستوري الذي يجعل حكومته مسؤولةً سياسيًا أمام جلالة الملك الذي عيّنها ويملك الحق الدستوري في إقالتها. فالمادة (49) من الدستور تنصّ صراحةً على أن أوامر الملك الشفوية أو الخطية لا تُخلي الوزراء من مسؤولياتهم. ومن هذا المنطلق، يُعتبر النشاط الميداني للرئيس حسان ترجمةً دستوريةً حقيقيةً للتوجيهات الملكية المتكرّرة بضرورة التواصل المباشر مع المواطنين، والوقوف على واقع الخدمات العامة المقدَّمة لهم عن قرب، بعيدًا عن التقارير الورقية والمراسلات الرسمية. فالرؤية الملكية لطالما أكّدت أن القيادة التنفيذية الناجحة هي التي تلامس الواقع وتستشعر هموم الناس ميدانيًا.
بالتالي، فإن هذه الممارسة تنسجم مع مفهوم "الحكم الميداني" الذي يتبنّاه جلالة الملك منذ سنوات، ويقوم على تعزيز ثقة المواطن بمؤسسات الدولة من خلال الشفافية في الأداء والفاعلية في الإنجاز، بحيث تتحوّل زيارات رئيس الوزراء إلى وسيلةٍ للتنفيذ والمساءلة في آنٍ واحد، وامتدادٍ طبيعيٍّ للتوجيهات الملكية التي تضع المواطن في صميم العمل الحكومي.
إن الزيارات الميدانية لرئيس الوزراء ممارسةٌ حميدةٌ يضبطها الدستور ومبدأ الاختصاص في ممارسة السلطة. فالبعد الإيجابي في هذه الممارسة يتمثّل في أن يجعل رئيس الوزراء من ميدانيّته نموذجًا في القيادة الإدارية يُحتذى به من الوزراء والمسؤولين. فهو حين يتابع الميدان بنفسه لا يتجاوزهم، بل يذكّرهم بمسؤولياتهم ويحفّزهم على المتابعة الميدانية الفاعلة في نطاق وزاراتهم الخدمية.