عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    21-Jul-2025

حي المسكية الدمشقي.. عبق الورق وأوجاع الحاضر

 الغد

في قلب دمشق القديمة، في تلك البقعة التي تخفق فيها ذاكرة الزمان وتترقرق على حجارتها همسات العصور، حيث يلتقي التاريخ بالحياة اليومية في أزقتها الضيقة المبللة بأريج الياسمين، يقبع حي المسكية كوشاح نسجته يد الزمن من خيوط الحروف والورق والعطر.
 
 
وهنا، في هذا الشريان النابض، يمتزج قديم المدينة بجديدها كما تمتزج قطرات الندى على بتلات الياسمين عند الفجر، فيغدو المكان قصيدة طويلة تتلى على مسامع العابرين، فيخشعون عندها وإن لم يقرؤوا حرفا واحدا.
 
ويبدأ هذا الحي عند الجهة الشمالية الغربية للجامع الأموي الكبير، كأنه ظله الممتد وأحد أجنحة قدسيته، ملاصقا لجدار القبلة حيث تتداعى الأرواح الطاهرة في رحاب الجامع بالتسبيح والدعاء، وعلى امتداد السوق العتيق المؤدي إلى سوق الحميدية الشهير، تتوالى الدكاكين الصغيرة كأنها خرزات سبحة عتيقة، تتلألأ فيها المصاحف المذهبة والكتب المطبوعة، والدفاتر المزخرفة، والمخطوطات التي يرقص غبار الأيام فوق أوراقها كرقصة الذكريات على وجوه الشيوخ، وفق ما نشر على موقع "الجزيرة نت".
وموقعه، المحاذي لرحاب المسجد الأموي، منحه طابعا روحانيا وتجاريا فريدا، قل أن تجده في مكان آخر، فهو ليس سوقا كبقية الأسواق، بل هو مصلى للكتب، ومحراب للقراء، وسارية من سواري المسجد ذاتها، كأنما جعل ليكون صدى لكتب العلماء ومصاحف القراء وخطى الأدباء الذين ظلوا يجاورون الجامع منذ مئات السنين، وكل زاوية فيه تحمل أثرا لمداد عالم أو أنين شاعر أو حلم طفل يشتري أول كتاب له.
وفي المسكية، كل شيء يروي حكاية: حجارتها التي بللتها دموع الغيم وأقدام المارة، وأصوات الباعة التي تختلط بنداء المؤذنين، ورائحة الورق القديم التي تتضوع فتخالها بخور الحكمة. وترى فيه الوجوه على اختلافها: طالب العلم المتأبط دفترا، والشيخ المتأمل في عناوين الكتب، والطفل يتصفح بحذر كتابا مصورا.
وليس حي المسكية إذن مجرد شارع ضيق بين جدران المدينة، بل ذاكرة دمشق الحية، وهو قلبها الذي ما يزال ينبض بالحرف، وشفتاها اللتان تلهجان بالعلم، ويكأن المكان يردد مع كل نسمة ياسمين: هنا دمشق.. مدينة لا تكف عن القراءة.
رغم ما عصفت به الأيام من رياح الإهمال والتبدل، ما يزال حي المسكية يصر على أن يبقى حيا، شامخا في وجه العواصف، متمسكا بشرف اسمه، وبالعبق القديم الذي يرشح من بين أحجاره، كأن الحي كله يردد بإصرار "لن يموت الورق ما دام الحبر يتنفس، ولن يذبل العطر ما دام في الشام قلب ينبض".
واليوم، ما زالت رفوف الكتب تصطف على جانبي السوق كجنود في موكب العلم، بأغلفتها الباهتة التي ما زالت تحمل كبرياءها القديم رغم غبار الأزمنة، ودفاتر المذكرات تلوح للمارين، وأوراق المجلات المصفرة تحاول أن تقتنص نظرة شغوفة بالقراءة من عيون زائرة مسرعة، كأن الكتب تلوح بيديها الهزيلتين لكل عابر: لا تتركني على رفوف النسيان والوحدة.
ويُرى الحي في ساعات النهار مزدحما بالناس الذين يتزاحمون بين أزقته، طلاب جامعات يحملون حقائبهم المحشوة بأحلام شابة يفتشون عن كتب مستعملة أو مراجع نادرة، وزوار فضوليون يلتقطون صور الرفوف وكأنها مشهد من متحف حي، وشيوخ وقورون يفتشون عن مصحف مخطوط، وأطفال يمدون أصابعهم إلى دفاتر زاهية الألوان.
وفي المسكية، لا ينقطع ضجيج الباعة، كل منهم يرفع صوته على إيقاع مزادات صغيرة تشبه الموشحات الدمشقية، فتختلط الأصوات بأنين الأرض تحت وطأة أقدام العابرين، وتتسرب إلى سماء الحي كرنين خافت على وقع التاريخ.
ولكن العين الحاذقة، التي لا تخدعها الزحمة، ترى الجراح العميقة التي يخفيها الحي بين طياته، فترى حزنه المستتر خلف واجهات المحلات، الحزن المبلل برطوبة اليأس، والجدران التي طالها التشقق، والواجهات التي بهتت ألوانها، والكتب التي علاها الغبار وكأنما تبكي أياما كان المارة يتوقفون أمامها مأخوذين، وترى المحلات التي أغلقت أبوابها يأسا، والمكتبات التي استسلمت لصمت الهواتف المحمولة، والباعة الذين باتوا يقسمون أن لا ربح كما كان من قبل.
لقد طال حي المسكية ما طال سائر أحياء دمشق القديمة من أوجاع وإهمال، بل كأن نصيبه منها كان أوجع وأفدح، لأن ما ينزف منه ليس حجرا ولا زقاقا، بل روح الحرف وعطر الورق. فأزقته الضيقة تشكو اليوم اختناقا شديدا، يئن تحت وطأته المارة، والزحام العشوائي يملأ صدر المكان بالدخان والغبار، فيخنق أنفاس الكتب المصفوفة على الرفوف، وكأنها أسرى ينتظرون من يحررهم من قيد الإهمال.