عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Nov-2025

السردية الأردنية: مظلة وطنية*حسن الدعجة

 الغد

السردية بوصفها مصطلحاً معاصراً آخذة في الاتساع داخل الخطاب الثقافي والسياسي، لم تعد مجرد تعبير لغوي عابر، بل أصبحت إطارا للفهم وتشكيل الوعي وصياغة الهوية. وفي السياق الأردني تحديدا، جاء توجيه ولي العهد لكتابة السردية الأردنية ليؤكد الحاجة إلى إعادة قراءة الحكاية الوطنية بلغة جديدة تستجيب لتحولات الزمن وتطلعات الشباب وتحديات الدولة الحديثة. فالسردية هنا ليست مشروعا أدبيا فحسب، بل مشروع وعي وذاكرة ومسار للمستقبل. وهي محاولة لإعادة تنظيم قصة الوطن بحيث تُقرأ بطريقة تُبقي جذورها راسخة، ولكنها تسمح أيضاً بتجددها وتأويلها وفق احتياجات اللحظة.
 
 
يكمن التمييز بين مصطلحي «السردية» و»الرواية» في إدراك طبيعة اللغة بوصفها كائناً حياً يتطور، وهو ما يجعل المفاهيم تتغير وتتخذ أشكالا أكثر رحابة مع مرور الزمن. فالرواية، بحسب الاستخدام التقليدي، هي عمل أدبي محدد له بداية ونهاية، شخصيات وأحداث، إطار زماني ومكاني، وبنية تخيلية تصوغ تجربة إنسانية في قالب فني. أما السردية فهي أوسع من ذلك بكثير؛ إنها الإطار الذي يضم عددا كبيرا من الروايات الجزئية المتنوعة التي تشترك في هدف عام أو معنى كلي. فإذا كانت الرواية نصاً واحداً، فإن السردية هي المنظومة التي تنسجم فيها نصوص عديدة لتشكل رؤية شاملة. ولذلك شاع القول بأن لكل عقد مصطلحه وصورته، وأن السردية باتت اليوم المصطلح الذي يجمع بين السياسة والثقافة والهوية في آن واحد.
في هذا المفهوم تتسع السردية الوطنية لتضم روايات متعددة: رواية بناء الدولة، رواية الجيش، رواية التنمية، رواية المشاركة الشعبية، رواية العائلة الهاشمية عبر مسيرتها التاريخية، وروايات المجتمع بتنوعه وثرائه. كل هذه العناصر ليست حكايات متناثرة، بل أجزاء من سردية واحدة تُظهر مسار الأردن منذ التأسيس وحتى اللحظة الراهنة. وهذا ما يجعل السردية مظلة عامة بينما تبقى الروايات تجليات جزئية داخل تلك المظلة. فالسردية هدفها أن تُنتج معنى جامعاً يدركه الناس، بينما تهتم الرواية بتقديم تفاصيل تجربة محددة.
وما يقوله ولي العهد في هذا السياق يتجاوز التوجيه الإداري نحو دعوة أعمق: دعوة لتجديد آليات فهم الذات الوطنية. فالسردية الأردنية التي يُراد كتابتها اليوم ليست ترديداً لخطاب تقليدي، بل صياغة واعية تستحضر إنجازات الماضي وتقرأ تحديات الحاضر وتستشرف المستقبل. إنها سردية تعطي مكاناً للأجيال الجديدة، وتتيح لخبرتهم ومشاركتهم أن تكون جزءاً أصيلاً من القصة الوطنية. كما أنها سردية تدرك أن الدولة العصرية تحتاج إلى خطاب يربط بين الهوية والابتكار، بين الثوابت والانفتاح، بين الرواية التاريخية والوعي المعاصر.
أحد العناصر المهمة في مفهوم السردية هو مرونته اتساعه. فهو ليس قالباً جاهزاً، بل عملية مستمرة تُكتب وتُناقش وتتطور مع الزمن. لذلك فإن السردية الأردنية ليست مشروعاً ينتهي، بل عملية بناء متواصل. وهذا ما يجعلها أكثر حيوية من الروايات الجامدة أو المغلقة. فالسردية تسمح بوجود تعددية في الأصوات داخل إطار واحد، بينما قد تظل الرواية أسيرة منظور واحد أو تجربة واحدة. ولهذا تُعد السردية أكثر قرباً من روح المجتمع المعاصر الذي يعيش تعدداً وتنوعاً في مصادر المعرفة والخطاب.
ومع ذلك، لا بد من ملاحظة أن السردية ليست نصاً مفتوحاً بلا حدود؛ فهي مشروع له هدف ورؤية مشتركة. إن السردية الوطنية تُكتب لتعزيز الانتماء، توضيح المسار، ترسيخ الثقة بالدولة، وتأكيد قدرة المجتمع على مواجهة التحديات. ومن هنا تأتي أهمية الدقة في صوغها، لأنها لا تُعنى فقط برواية أحداث الماضي، بل ببناء المعنى الذي يربط بين الماضي والحاضر. فالسردية ليست تاريخاً يُسرد بقدر ما هي تفسير للتاريخ يمنحه قيمة ويجعله قاعدة للمستقبل.
ويأتي تطور المصطلحات ليؤكد أن اللغة نفسها جزء من السردية. فمع كل عقد تظهر مفاهيم جديدة تعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. والسردية اليوم تعكس حاجة العصر إلى امتلاك إطار شامل لفهم الذات، بعد أن أصبحت المعلومات متناثرة والروايات الفردية كثيرة. ولذلك اكتسب المصطلح مكانته لأنه يجمع بين الفكر والخطاب، ويمنح المجتمع وسيلة لإعادة قراءة ذاته بطريقة أكثر شمولاً.
ضمن هذا الإطار، يصبح مشروع كتابة السردية الأردنية جهداً جماعياً يشارك فيه المثقفون والشباب والمؤسسات والمجتمع المحلي. إنها ليست مهمة نخبوية، بل عملية مشتركة تهدف لخلق لغة وطنية تعكس التجربة اليومية للناس وتُبرز خصوصية الدولة. فالسردية الناجحة هي السردية التي تُقنع وتُلهم وتُحفّز، وليست تلك التي تُكتب على الورق فقط. وهي التي تسمح للروايات المختلفة بأن تكون جزءاً من القصة الكلية دون أن تلغي بعضها البعض.
إن الفرق الجوهري بين السردية والرواية يكمن في أن السردية «واحدة برؤية جامعة»، بينما الروايات «متعددة بتجارب خاصة». والسردية الوطنية ليست نفياً للتنوع، بل تنظيم له. إنها الصورة الكبرى التي تحتوي عدداً من الصور الصغيرة، وكل صورة تكمل الأخرى ولا تناقضها. ومن هنا تأتي قوتها: فهي قادرة على احتواء التعدد دون أن تفقد وحدتها.
في النهاية، يمكن القول إن توجيه ولي العهد لكتابة السردية الأردنية هو خطوة نحو إعادة إنتاج الخطاب الوطني بطريقة تتناسب مع روح العصر. وهو تأكيد على أهمية أن تكون للأردن قصة واحدة تجمع كل قصصه، ورؤية شاملة تستوعب كل رواياته، بحيث تبقى الهوية الوطنية راسخة ولكن دائماً قادرة على التجدد. بهذا المعنى تصبح السردية مشروع دولة لا مشروع نص، ومظلة واسعة لروايات متعددة تتوحد جميعها في خدمة الوطن ومسيرته المستمرة.