الدستور
بمناسبة ما ارتكبناه من أخطاء على صعيد اختيار بعض من يتولون المسؤولية في بعض المواقع، من دون أسس ولا معايير، وما فعلناه بأنفسنا من جهالات كان سببها الأول تغييب أصحاب الكفاءة وتقديم الأصحاب والمعارف ومنطق التنفيع والمصالح، أرجو ان ننتبه ما دمنا نتحدث عن مرحلة جديدة نحاول فيها إعادة ترسيم العلاقة بين الدولة ومواطنيها الى مسألتين:
الأولى: مشكلتنا ليست في نقص التنظير ولا في قلة عدد المنظرين، وإنما في التدبير، بما يتضمنه من إدارة وسياسة، ومن خبرة ووعي، ومن أفعال وممارسات.
المسألة الثانية: لا ينقصنا خبراء ولا متخصصون ولا «أدمغة» بقدر ما ينقصنا إسداء الأمر إليهم والاستفادة من خبراتهم وتفعيل إبداعاتهم، ومن أسف ان معظم هؤلاء «معطلون» عن العمل، ولا يلتفت الى بحوثهم وإبداعاتهم أحد، ولهذا آثروا الانزواء بعيداً بين جدران جامعاتهم ومؤسساتهم واكتفوا بمهمة البحث والتدريس، أو وجدوا فرصتهم في الخارج ففتحت لهم أبواب «العمل» والأجور المرتفعة.. والشهرة والاحترام أيضاً.
نماذج الصنف الأول الذي «اعتزل» مكرهاً بعد أن تجاوزه قطار «الاستثمار» في العقول، وهو استثمار نادر في بلادنا العربية، واستغنى مجتمعه عن خدماته العملية، تبدو (هذه النماذج) متوفرة بما يكفي لفهم ما نعانيه من «عطالة» على مستوى تفعيل الخبرات - خاصة العلمية - وإدراجها في مشاريعنا التنموية، سواء فيما يتعلق بالبحوث العلمية أو في البرامج والتطبيقات العملية.
أما نماذج الصنف الآخر الذي آثر أصحابه «الهجرة» الى الخارج، فأبدعوا واشتهروا، بعد أن وجدوا من استثمر «طاقاتهم»، (ثلث الكفاءات العلمية التي تهاجر الى الغرب من الدول النامية هي كفاءات عربية، و75% تستحوذ عليه بريطانيا وأمريكا وكندا، كما ان نحو %45 من الطلبة العرب الذين درسوا في الخارج لا يعودون لبلادهم.. الخ)، هؤلاء الذين يشكلون «خسارة» لمجتمعاتنا العربية، هم الذين يستحقون الالتفات إليهم، وفهم أسباب هجرتهم، ناهيك عن ضرورة التواصل معهم أو تهيئة المناخات المناسبة لاستعادتهم الى أوطانهم.
قائمة «العلماء» والخبراء العرب الذين هُجَّروا من أطانهم أو هجروها طويلة، منهم من جرى تكريمه وإغراؤه برواتب وامتيازات هائلة ولا يزال يعيش هناك ومنهم من تم استثماره ثم اغتياله، وهؤلاء كلهم مثلوا نقلة نوعية «للإنجازات» العلمية - بمختلف مجالاتها - في الغرب.. فيما حرمت مجتمعاتنا العربية من خبرتهم لأكثر من سبب.
باختصار، نحن بحاجة اليوم الى إعادة الاعتبار «للخبراء» والعلماء الذين يشكلون الدعامة الأساسية لأي مشروع للنهضة أو التقدم، أو - حتى - لإنجاز أي برامج تنموية سواء تعلقت بشؤون الإدارة والتنظيم، أو شؤون العلم والتكنولوجيا أو غيرها.
كيف؟ الإجابة معروفة لدى الجميع، ولكني أشير إلى مسألة واحدة فقط: وهي ضرورة احترام «العلم» كقيمة، والإنسان كقيمة أيضا.. وما بعد ذلك سيكون مجرد تفاصيل.
هؤلاء الذين أتحدث عنهم من الخبراء والمتخصصين والعباقرة في الإدارة والقانون وغيرها من حقول المعرفة موجودون بيننا ولكن لم نكتشفهم... يمكن أن نجدهم بسهولة إذا قررنا أن نستفيد منهم.