الغد-رشا كناكرية
في مواقف صعبة كثيرة، نبحث عن راحة بسيطة في تفاصيل أيامنا، وإن كانت "سعادة مؤقتة"، إلا أنها تجعلنا نهرب من واقعنا.
في أحيان كثيرة، يمر الإنسان بأوقات صعبة وعقبات في حياته، تتخللها مشاعر من الحزن والتوتر، وتسكنه رغبة كبيرة في تهدئة مشاعره، فيجد نفسه يفعل أمورا مختلفة ليشعر أنه بخير، وإن كان شعورا "مزيفا".
فالبعض قد يختار الذهاب للتسوق وشراء أشياء لا يحتاجها، فقط ليعيش متعة سريعة، وهذا ما يعرف بـ"إدمان التسوق"؟ وآخرون يجدون في تناول الطعام سعادة، وهو ما يعرف بـ"الأكل العاطفي"، معتقدين بذلك أنهم سيخففون الألم الداخلي.
سلوكيات للهروب من مواجهة الواقع
والبعض الآخر يذهب إلى أبعد من ذلك، فيعود إلى علاقات سامة مر بها، فقط لأنه يبحث عن الألفة أو هربا من الوحدة، وآخرون يختارون الإفراط في استخدام الهاتف، ويقضون ساعات في مشاهدة "الريلز" والفيديوهات للهروب من الواقع.
جميع هذه السلوكيات تعد من أشكال "السعادة المؤقتة"، والحقيقة أننا جميعا نمتلك عادة الهروب ونظن أنها تريحنا، لكنها في الواقع ليست سوى "مسكن" للمشاعر وهروب منها ومن الواقع الذي نعيشه.
وهكذا هو الحال مع مريم (33 عاما)، التي تجد نفسها تتجه إلى طلب الطعام كلما مرت بمواقف صعبة تثقل قلبها، وتبرر فعلها ذلك بأن الطعام يريحها، وإن كان لفترة قصيرة، مبينة أنها اعتادت على هذا السلوك منذ وقت طويل، وأنها حتى وإن لم تكن تشعر بالجوع، لا تجد نفسها إلا متجهة إلى المطبخ.
الإفراط في تناول الطعام
وتعترف مريم بأنها تدرك تماما أن ما تفعله هو هروب من التفكير ومن المشاعر التي تمر بها، إلا أنها لا تعلم ماذا تفعل غير ذلك، منوهة إلى أن تناولها للطعام في هذه الأوقات يسبب لها مشاكل في المعدة.
وعلى الرغم من معرفة مريم بأنها بعد الإفراط في تناول الطعام ستشعر بالألم، إلا أنها لا تعرف وسيلة أخرى تمنحها راحة مؤقتة لمشاعرها.
لا يختلف حال جعفر (36 عاما) عنها، إذ يجد نفسه يبقى لساعات طويلة يقلب في هاتفه من فيديو إلى آخر، ومن منصة إلى أخرى، فقط ليُبقي عقله بعيدا عن التفكير في الموقف الصعب الذي يمر به.
ويعلم جعفر أنه بهذا السلوك يهرب من الواقع بدلاً من أن يجد حلا لما يمر به، إلا أن مشاعر القلق والتوتر والعجز تقيد تفكيره، فيلجأ إلى شاشة هاتفه هربا منها.
وظروف الحياة الصعبة التي يعيشها جعفر أكبر من قدرته في أحيان كثيرة، بحسب قوله، فلم يعد يجد مهربا منها سوى في هاتفه والفيديوهات المضحكة التي تخفف عنه، وإن كان ذلك لفترة قصيرة.
هل السعادة المؤقتة تخدر مشاعرنا؟
وهنا يبقى السؤال: كيف نتعامل مع مشاعرنا دون الهروب منها؟ وهل هذه "السعادة المؤقتة" مجرد "مخدر" لمشاعرنا.
بدوره، يبين الاستشاري النفسي والمحاضر الدولي المعتمد يزيد موسى أنه من الناحية النفسية، الإنسان بطبيعته يسعى إلى تخفيف الألم بأسرع وقت ممكن، وعندما يمر بمشاعر مزعجة مثل الحزن أو القلق أو الوحدة، يتحرك العقل العاطفي تلقائيا للبحث عن أي سلوك يمنحه شعورا فوريا بالراحة دون الحاجة إلى مواجهة الداخل.
ويوضح موسى أن هذه السلوكيات، مثل التسوق أو الأكل أو الانشغال المفرط بالهاتف أو العودة إلى علاقات مألوفة رغم أذيتها، تفعل نظام المكافأة في الدماغ وتفرز الدوبامين بشكل سريع، مما يعطي إحساسا مؤقتا بأن الأمور بخير، حتى وإن لم يكن هناك حل حقيقي.
ويشير موسى إلى أن المشكلة تكمن في أن هذه الراحة السريعة لا تعالج السبب، بل تؤجل التعامل معه، فيعتاد الإنسان على الهروب بدل الفهم، وعلى التسكين بدل المواجهة.
آليات دفاع نفسية
ووفقا لذلك، يبين موسى أن السعادة المؤقتة تعد من آليات الدفاع النفسية التي يستخدمها الإنسان بشكل غير واع لحماية نفسه من الألم العاطفي، وهي بحد ذاتها ليست خطأ ولا مشكلة طالما كانت عابرة وغير أساسية في التعامل مع المشاعر.
ولكنها تصبح مؤذية عندما تتحول إلى الأسلوب الرئيسي للتعامل مع أي ضيق نفسي، بحسب موسى، وعندما يبدأ الشخص بالاعتماد عليها كلما شعر بعدم الراحة، فيمنع نفسه من فهم مشاعره أو معالجتها.
ويؤكد بذلك أنه عند هذه المرحلة لا تختفي المشاعر، بل تتراكم في الداخل، ويجد الإنسان نفسه عالقا في دائرة متكررة من الهروب والعودة إلى نفس الألم بشكل أقوى، مع شعور متزايد بالفراغ وعدم الاكتفاء.
ويفسر موسى أن التعامل الصحي مع المشاعر لا يعني الاستسلام لها أو الغرق فيها، بل يعني الاعتراف بوجودها ومنحها مساحة آمنة للظهور دون مقاومة أو إنكار.
كيف نحقق السعادة الداخلية؟
ويبين أنه عندما يسمح الإنسان لنفسه أن يشعر بالحزن أو القلق دون محاولة إسكات هذه المشاعر فورا، يبدأ بفهم الرسائل التي تحملها، ويتعامل معها بوعي بدل رد الفعل التلقائي.
ويذكر موسى أن الجلوس مع المشاعر، وتسميتها، وملاحظتها، ثم اختيار تصرف واع ومناسب بدل الهروب، يخفف حدتها بشكل طبيعي ويحافظ على التوازن النفسي، لأن المشاعر التي يسمح لها بالمرور لا تحتاج إلى أن تصرخ لاحقا.
ووفق موسى فإن بناء السعادة الداخلية يبدأ عندما تتكوّن علاقة صحية بين الإنسان ونفسه، قائمة على القبول والوعي والمعنى، وليس على الإنجاز أو المتعة السريعة فقط.
ويبين أنه عندما يشعر الفرد بقيمته بعيدا عن المقارنات، ويمتلك وضوحا في هويته واحتياجاته وحدوده، تقل حاجته للاعتماد على محفزات خارجية لتثبيت مزاجه، فالسعادة الحقيقية تنمو من الإحساس بالمعنى، ومن العلاقات الآمنة، ومن القدرة على تهدئة النفس من الداخل، بحيث تصبح المتعة إضافة جميلة للحياة لا وسيلة للهروب منها.