عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    25-Sep-2025

ثقافة الانتقاء على المنصات.. وعي جديد في مواجهة فوضى المحتوى

 الغد-ربى الرياحي

 الانتقائية على السوشال ميديا اليوم، مهارة وجودية أكثر منها رفاهية، فوسط هذا التدفق الهائل من الصور الفيديوهات الأخبار والقصص السريعة، يتحول المتصفح العادي إلى شخص يعيش داخل دوامة من الخيارات المتناقضة ما بين المفيد والعابر، الملهم والمستنزف للطاقة.
 
 
لكن، غياب الانتقائية يحول هذه المساحة الرقمية إلى مصيدة للوقت، وربما الانشغال بالتفاصيل الصغيرة بينما قد تغيب القضايا الجوهرية التي توسع المدارك. لذا تكون الانتقائية هنا مسؤولية تجاه الوعي.
مريم طالبة جامعية كانت تقضي يومها بين التنقل من فيديو لآخر، وتقف عند منشورات قد لا تهمها أو تضيف لها ما هو مفيد حتى فقدت القدرة على تمييز المحتوى العميق.
تقول "كنت أفتح هاتفي بلا هدف، أقضي ساعتين أو أكثر ثم أسأل نفسي ماذا استفدت؟ دون أن أجد جوابا واضحا، ومع الوقت قررت ممارسة الانتقائية الرقمية". بدأت تتابع حسابات متخصصة في التنمية البشرية والقراءة وحذفت كل ما يثير تشتتها أو يستهلك وقتها بلا جدوى. فتغير روتينها اليومي، إذ أصبحت تدخل السوشال ميديا بوعي تأخذ ما تحتاجه ثم تخرج من تلك المنصات وكأنها أصبحت تمتلك مفتاحا لغرفتها الذهنية الخاصة فلا أحد يقتحمها إلا بإذنها. 
منذر موظف في الثلاثين من عمره، يشكو باستمرار من التشويش الرقمي، ضجيج الأخبار، الجدل السياسي والإعلانات المتكررة، حيث تستهلك طاقته الذهنية بلا وعي. لكن بعد نصيحة من صديق بدأ ينتقي ما يشاهد أو يقرأ وألغى كل الصفحات التي تبث طاقة سلبية واستبدلها بمنصات تعطيه محتوى عمليا ينفعه في مجاله المهني. 
ويبين منذر أن السوشال ميديا أصبحت بالنسبة له أشبه بمكتبة خاصة يتابع من خلالها كل ما يهمه ويلهمه لتطوير مهاراته حتى حالته النفسية أصبحت أفضل لأنه لم يعد يستهلك طاقته في جدالات مواضيع سطحية وجدالات لا تنتهي تفتقر للمضمون. 
وعرين هي أيضا أم وجدت نفسها محاصرة بالمقارنات من كل اتجاه بسبب ما تراه على إنستغرام حياة مثالية، بيوت فاخرة، وأمومة بلا تعب، هذا زاد من شعورها بالضغط، الأمر الذي دفعها لأن تعيد تشكيل قائمة متابعتها فاستبدلت الحسابات التي تبالغ  في نشر المثالية بصفحات تعرض تجارب حقيقية وأمومة واقعية. 
- المحتوى وإثراء المعرفة
تشير مدربة المهارات الحياتية نور العامري إلى أن اختيار نوع المحتوى الذي نتابعه يوميًا لم يعد مجرد قرار عابر، بل هو قرار استثماري للطاقة الذهنية والعاطفية. المحتوى الذي يستحق المتابعة هو ما يحقق واحدة من ثلاث وظائف: إثراء المعرفة: يضيف معلومة أو فكرة جديدة، تحفيز الإبداع، ويلهمك للتفكير خارج الصندوق.
أي محتوى لا يضيف قيمة حقيقية غالبا يصبح عبئا غير مرئي يستهلك وقتك وصفاء ذهنك، كما أن كثرة الخيارات على السوشال ميديا، وفق العامري، قد تكون سلاحا ذا حدين، أما التشتت، حيث يتحول التصفح إلى استهلاك عشوائي، أو وعي متزايد، حين ندرك هذا التشويش فنطوّر معايير صارمة للاختيار.
الفرق هنا ليس في المنصات، بل في وعي المتلقي وقدرته على إدارة انتباهه. أما دوافع إلغاء المتابعة وأثرها النفسي تتلخص في تكرار محتوى سلبي أو مثير للجدل، تضارب مع القيم الشخصية، استنزاف الوقت بلا فائدة.
وتبين العامري أن أثر القرار يأتي بانخفاض الضجيج الذهني وارتفاع مستوى الراحة النفسية، وكأنك ترتّب غرفتك من جديد، فالانتقائية الواعية تعكس منظومة القيم والأهداف، ويزيد من الدافعية، وصفاء الذهن، وسهولة اتخاذ القرارات. بينما المحتوى السلبي أو المثير للجدل، وفق قولها، يتسبب بتوتر داخلي والتشتت.
-  "فلترة" المحتوى الإيجابي
أيضا، الانتقائية في السوشال ميديا يمكن أن تتحول من مجرد "فلترة" محتوى إلى نمط حياة يحمي طاقتنا الذهنية والعاطفية. مع الوقت، تصبح القدرة على قول "لا" للمحتوى غير المفيد انعكاسًا لقدرة أوسع على قول "لا" لأي استنزاف في الحياة الواقعية.
وتؤكد العامري أن إدارة المحتوى على السوشال ميديا ليست رفاهية بل مهارة حياتية جوهرية، فالانتقائية الواعية تصنع فارقًا بين عقل مستنزف يعيش وسط الضجيج، وعقل متزن يعرف أين يوجّه طاقته. هي انعكاس مباشر للقيم والأهداف، وحين تتحول إلى أسلوب حياة تصبح جزءًا من قوة الشخصية وعمق الوعي.
 ويبين الاستشاري النفسي الأسري الدكتور أحمد سريوي أن "اختياراتنا على السوشال ميديا غالبًا ما تعكس أسلوبنا في العلاقات الواقعية"، بما في ذلك الأسرة. الشخص الذي ينتقي محتوى بعناية ويميل إلى المصادر الإيجابية أو التعليمية، غالبا ما يسعى في حياته الواقعية لعلاقات داعمة وآمنة.
أما من ينجذب للمحتوى المثير للجدل أو السلبي فقد يعيش نمطًا مشابهًا في تفاعلاته الأسرية، مثل التركيز على النقد أو المقارنات. ببساطة، ما يتم اختياره على الشاشات يعكس قيمنا واحتياجاتنا النفسية في العلاقات القريبة. والانتقائية المفرطة قد تؤدي إلى ما يشبه "فقاعة رقمية" تُقصينا عن وجهات النظر المختلفة، وهذا ينعكس على انفتاحنا العاطفي والفكري داخل الأسرة.
- استنزاف الطاقة النفسية 
ويذهب سريوي إلى أن متابعة ما يوافق آراءنا، يجعلنا أقل مرونة في تقبل اختلاف الآخرين، مما قد يزيد فجوة التواصل العاطفي والفكري معهم. أما المقارنات المستمرة فتستنزف الطاقة النفسية لأنها تُشعرنا بالنقص أو تدفعنا لمطاردة معايير مثالية غير واقعية. 
لذلك فإن الانتقائية الواعية (أي اختيار المحتوى الذي يغذّي عقولنا ونفوسنا بدلًا من استنزافها) تمنح مخزونا أكبر من الطاقة العاطفية والنفسية. هذه الطاقة الإيجابية يمكن استثمارها في التفاعل مع الأسرة بحب واهتمام أكبر، بدلًا من الدخول في دوامة التوتر أو المقارنة. أما المحتوى السلبي أو المثير للجدل يرفع مستويات القلق والتوتر لدينا، حتى لو لم ندرك ذلك بوضوح.
كما أن متابعة مؤثرين معينين قد تكون محاولة غير واعية لإيجاد انتماء أو مجتمع يشعر فيه الفرد بالفهم والقبول. 
ويختم سريوي حديثه، إن التوازن يتحقق من خلال وضع حدود زمنية وذهنية لاستخدام السوشال ميديا، مع وعي بنوعية المحتوى الذي نستهلكه. يمكننا تخصيص أوقات محددة للعائلة خالية من الشاشات، والتركيز على تواصل مباشر وعميق، مما يعيد ترتيب الأولويات بين العالم الافتراضي ومسؤولياتنا العاطفية الحقيقية.