وقف إطلاق النار.. ستالينغراد غزة*إسماعيل الشريف
الدستور
لقد كنا نعلم أننا خسرنا الحرب منذ ستالينغراد - فريدريش باولوس، قائد الجيش الألماني السادس الذي استسلم فيها.
في كلّ حروب العالم، يُعدّ إعلان وقف إطلاق النار أمرًا يُوجَّه إلى القوات العسكرية بالتوقف عن استخدام الأسلحة ووقف كل أشكال القتال والقتل. لكن عند الصهاينة يختلف المعنى تمامًا؛ فبالنسبة لهم، يُمثّل الإعلان الفرصة الأخيرة لسفك أكبر قدر ممكن من الدماء قبل أن يدخل الاتفاق حيّز التنفيذ. وهذا ما رأيناه يوم الخميس الماضي، فور إعلان وقف إطلاق النار، حين ارتكبت قوات الاحتلال مجزرة جديدة راح ضحيتها نحو ثلاثين فلسطينيًا.
تتضمّن المراحل الأولى من الاتفاق، وفقًا للتقارير، انسحابًا جزئيًا للقوات الصهيونية، وإنهاءً للحصار البشع المفروض على القطاع، مع السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، وتنفيذ عملية تبادل للأسرى بين الاحتلال وحركة حماس.
لكنني أرى أن مجريات الأمور لا تبشّر بالخير؛ فالصهاينة يتلاعبون بقوائم الأسرى الفلسطينيين ويستبعدون مئات الأسماء، وتصريحات وبيانات قادة حكومة نتن ياهو تُجمع على أن الحرب ستُستأنف. وقد صدر عن وزير المالية سموتريتش بيان يؤكد فيه أنّ عودة المحتجزين إلى ديارهم لن تمنع دولة الاحتلال من مواصلة حربها بكلّ قوتها لـ«القضاء على حماس» ونزع سلاح غزة بالكامل.
وأصدر وزير الأمن القومي، بن غفير، تصريحات مماثلة، قال فيها إنّ حزبه «القوة اليهودية» سيستغل نفوذه لتفكيك حكومة نتن ياهو إذا سمحت باستمرار حكم حماس في غزة. أما نتن ياهو، فيتجنّب الحديث عن وقف دائم لإطلاق النار، وتتركّز تصريحاته على أهمية تحرير المحتجزين لدى حماس.
ويُضاف إلى ذلك ما نشره موقع «دروب سايت نيوز» حول مراحل خطة ترامب التي حملت اسم «النهاية الشاملة لحرب غزة»، والممهورة بتواقيع الوسطاء. وتشير إلى أنّ المراحل اللاحقة لوقف إطلاق النار لا تتضمّن استسلام حركة حماس، ولا نزع سلاحها، ولا التهجير، والأهم من ذلك كلّه: أنها تتحدث عن إنهاءٍ دائمٍ للحرب. وهذا يعني أمرًا واحدًا واضحًا: أنّه رغم حجم الدمار الهائل الذي شهدته غزة، ورغم العدد الكبير من الشهداء، فإنّ الصهاينة فشلوا في تحقيق أيٍّ من أهدافهم العسكرية، وهي خسارة كارثية بكل المقاييس.
إنّ وقفَ إطلاق النار في غزة سيحوّلها إلى ستالينغراد جديدة؛ تلك المدينة التي خرجت من أعتى معارك الحرب العالمية الثانية مدمّرةً تمامًا لكنها لم تنكسر. وستغدو غزة، مثل ستالينغراد، رمزًا للمقاومة بعد أن صمد أهلها في وجه الحصار والدمار، وسينظر إليها كما نُظر إلى ستالينغراد: مقبرةً للغزاة وبشارةً بانهيار المشروع النازي، بما تحمله من دلالاتٍ تاريخيةٍ وسياسيةٍ عميقة. وهذا أمر لن يقبله الصهاينة.
لقد علّمتنا التجارب أنّ اتفاقات وقف إطلاق النار الدائمة مع الصهاينة تنهار في مراحلها الأولى؛ فقد انهار الاتفاق السابق عقب الإفراج عن دفعات من الأسرى في عهد إدارة بايدن في كانون الثاني من هذا العام، حين أنهى الكيان الهدنة في آذار، وعاد إلى الحرب بأشدّ صورها بطشًا وإجرامًا، بموافقةٍ وتواطؤٍ أمريكيّين واضحين. لذلك، فإنّ تحقّق وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار سيكون مفاجأةً سارةً وانتصارًا خالصًا للمقاومة.
ومع ذلك، قد تكون هذه المرة مختلفة؛ فإن صمد وقف إطلاق النار، فسببه أنّ الولايات المتحدة تريد هذه المرة إجبار الكيان على إنهاء الحرب، بعد أن تضرّرت صورته إلى حدٍّ يصعب احتماله. وقد صرّح ترامب بذلك علنًا حين قال إنّ «بيبي قد بالغ في الأمر، وإنّ إسرائيل خسرت الكثير من الدعم العالمي، والآن سأعمل على استعادة هذا الدعم». ويُضاف إلى ذلك أنّ المصالح الأمريكية نفسها تضرّرت بفعل الإبادة الجماعية، وتأثّرت مكانة الولايات المتحدة الدولية والإقليمية، وربما لأنها تحتاج إلى حشد قواها استعدادًا لحربٍ محتملة مع إيران.
لقد أثبتت الإبادة الجماعية الممتدّة على مدار عامين أنّ القرار الأخير يبقى بيد الولايات المتحدة، وسيحاول الصهاينة، بلا شك، التنصّل من خطة ترامب، لكنّ السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل ستسمح لهم الولايات المتحدة بذلك؟