الألم الذي لا يرى.. متاهة تشخيص أمراض المناعة الذاتية بالأردن
الغد-سارة بواعنة
يطول الطريق نحو تشخيص أمراض المناعة الذاتية في الأردن، حتى يتحول إلى عبء يومي يضاعف الألم ويُنهك المريض قبل أن يعرف اسماً لمرضه. فهذه الاضطرابات التي تتخفّى تحت أعراض متشابهة مع أمراض الجهاز الهضمي أو العصبي أو حتى الاضطرابات النفسية، تجعل رحلة الوصول إلى التشخيص سلسلة من الاحتمالات الخاطئة التي تمتد أحياناً لسنوات.
ومن خلال روايات مريضات، تكشف "الغد" كيف تحوّلت أعراض بدأت بسيطة إلى معاناة مزمنة، وكيف تنقلن بين المستشفيات والعيادات بحثاً عن إجابة واحدة: ما الذي يحدث داخل أجسادهن؟ التأخر في التشخيص لم يضاعف الألم الجسدي فحسب، بل ترك ندوبًا نفسية قد تكون أعمق من ندوب المرض نفسه.
يحدث اضطراب المناعة الذاتية، وفقاً للمعهد الوطني للصحة في الولايات المتحدة، عندما يهاجم جهاز المناعة أنسجة الجسم السليمة عن طريق الخطأ، فيتعامل معها كأنها أجسام غريبة، تؤدي هذه الهجمات إلى تلف الأنسجة، أو نمو غير طبيعي للأعضاء، أو خلل مباشر في وظيفتها.
رحلة البحث عن التشخيص الصحيح
على طرف السرير في قسم الطوارئ، تتلوى "بيان" من ألم حاد يمزق أحشاءها. بالكاد تستطيع التقاط أنفاسها، لكن النظرات المحيطة بها، بمن فيهم الأطباء، لم تكن تحمل تعاطفاً بقدر ما كانت تحمل شكاً، في تلك اللحظة، لم تكن بيان مجرد مريضة تبحث عن علاج، بل كانت تشعر بأنها "متهمة" في قضية لم تفهمها؛ جسدها يخونها بأوجاع غير محتملة، والعالم من حولها يكذّبها. تستذكر سنين المعاناة التي سبقت التشخيص بمرارة قائلة: "لم يصدقني أحد.. لم يكن يصدقني أحد".
بدأت رحلة بيان مع المرض عام 2013، في أواخر عامها الثالث والعشرين. حياة طبيعية تحولت فجأة إلى جحيم من الألم المستمر. تقول: "لم أعد قادرة على النوم ليلاً، وكنت أُنقل يومياً إلى طوارئ المستشفى". زارت سبعة أطباء على مدار عام ونصف، لكن الإجابة كانت دائماً واحدة ومحبطة: "هذا قولون عصبي متهيج"، أنتِ عصبية وتتوهمين المرض.
لم تقتصر دائرة التشكيك على الأطباء، بل امتدت لتشمل أقرب الناس إليها. تروي بيان بحرقة: "لم يصدقني أحد حتى النهاية، لا أهلي ولا زوجي". وفي خضم محاولاتها اليائسة للبحث عن أي وسيلة لتسكين ألمها الذي استعصى على الفهم، خضعت لعلاجات خاطئة زادت من سوء حالتها، أبرزها حقنها مراراً بمسكن "الفولتارين". اكتشفت لاحقاً أن هذا الدواء ممنوع تماماً لمرضى الأمعاء الالتهابية، لتعلق بأسف: "بدلاً من علاجي، تسببوا لي بضرر أكبر".
عندما يتحدث الجسد بلغة لا يمكن إنكارها
لم يتوقف الأمر عند الضرر الدوائي، فبعد أشهر من المعاناة، بدأ جسد بيان يصرخ بطرق أكثر عنفاً لينذر بخطورة الوضع. فقدت بيان 13 كيلوغراماً في 10 أيام، ثم ظهرت أعراض جسدية صادمة، حيث لاحظت وجود اتصال غير طبيعي بين جهازها الهضمي والبولي. تصف المشهد قائلة: "أصبح ما أتناوله يظهر بوضوح في عينات التحليل... كان شيئاً لا يصدق".
لكن حتى هذا الدليل المادي قوبل بالإنكار في البداية، حيث قال لها الطبيب: "يتهيأ لك... علمياً هذا مستحيل تحت إصرارها، خضعت للتنظير السفلي الذي كشف عن أمعاء "ذائبة تماماً" بحسب وصف الأطباء، وشُخصت خطأً في البداية بـ"القولون التقرحي".
المتاهة لم تنتهِ، بل تفاقمت حالتها حتى وصلت إلى مرحلة الانسداد المعوي الكامل وتشكل ثقب بين القولون والمثانة. هنا فقط، وبعد سنوات من العذاب، جاءت بالحقيقة: "تشخيصكِ السابق خاطئ، أنتِ مصابة بداء كرونز".
لم تكن بيان وحدها التي تعيش دوامة مرضٍ بلا هوية واضحة؛ فليس بعيداً عن معاناتها، كانت ندى (اسم مستعار)، شابة في العشرينيات، تخوض المعركة ذاتها، بدأت قصتها بوجبة غداء عادية، وجبةٌ مرّت على صديقاتها مرور الكرام، لكنها كانت بالنسبة لها نذير خطر أيقظ المرض، وفاتحة لكابوس امتد لأعوام.
عاشت ندى ألمًا حاداً تبعته رحلة تشخيص تنقلت خلالها بين أربعة مستشفيات، وسط تشخيصات تتبدل كل أسبوع: من "تسمم غذائي" إلى "جرثومة معدة"، وصولاً إلى الطعن الأكثر إيلاماً بالنسبة لها: "الموضوع نفسي". كل ذلك كان يجري بينما أعراضها تتفاقم بوضوح وصولاً إلى نزيف لم يعد يحتمل. وعندما سُئلت ندى عن كواليس تلك الرحلة الطويلة من التشخيص، أخذت نفساً عميقاً واختصرت معاناتها بجملة واحدة: هاي الي عذبونا فيها".
لا يمثل هذا الوجع مشهداً نادراً، يوضح استشاري أمراض الباطنية والجهاز الهضمي الدكتور عمر طناش أن أعراض أمراض الأمعاء الالتهابية، وتحديداً داء "كرونز" والقولون التقرحي، تتشابه إلى حد كبير في بدايتها مع أعراض "البرد" المعوي أو التلبك البسيط، مما يدفع المريض ومحيطه للاعتقاد بأنها وعكة صحية عابرة يمكن علاجها منزليًا بالأعشاب والوصفات الشعبية. هذه الثقافة المجتمعية التي تبسّط الأعراض تتسبب في ضياع سنوات ثمينة قبل اكتشاف الحقيقة، يقول طناش: "تأتينا الحالات متأخرة التشخيص بأربع أو خمس سنوات، وأحياناً أكثر".
ولا يتوقف الأمر عند التفسير الخاطئ للأعراض، بل يضيف طناش عاملاً اجتماعياً حاسماً يفاقم المشكلة، وهو تردد المرضى- وخاصة الإناث- في الخضوع للفحوصات الدقيقة اللازمة للتشخيص، مثل التنظير وذلك بدافع الخجل الاجتماعي والحواجز النفسية التي تمنعهن من إجراء هذا النوع من الفحوصات في وقت مبكر.
عندما يصبح التشخيص طوق نجاة
إن متاهة التشخيص الطويلة ليست مجرد انتظار، بل هي دوامة من الشكوك المؤلمة. فكل زيارة للطبيب كانت تفتح باباً لاحتمالات مرعبة، وكل فحص كان يحمل في طياته قلقاً جديداً. وكما أجمعت المريضات، فإن الطريق إلى الحقيقة محفوف بفحوصات قاسية مثل التنظير، وخزعات مؤلمة، وحتى عمليات جراحية، وكل ذلك دون ضمان الوصول إلى إجابة شافية. هذا الضغط النفسي الهائل، الممزوج بالألم الجسدي الذي لا يُراه أحد، يدفع المريضة أحياناً إلى حافة اليأس. في تلك اللحظات، وفي ذروة المعاناة، يصبح مجرد تشخيص أي مرض، مهما كان خطيراً، أمنية تتمناها المريضة، فقط لتضع حداً لحالة عدم اليقين التي تنهشها من الداخل.
"ولعل قصة العشرينية "ياسمين" (اسم مستعار) هي الشاهد الأقسى على فوضى التشخيص تلك. بدأت معاناتها عام 2013 بوهن عضلي وآلام متفرقة، شُخصت في أحد المستشفيات خطأً بـ "التهاب الكبد الوبائي". ساءت حالتها حتى فقدت الوعي والحركة في أطرافها، لتُنقل بين المستشفيات كحالة كبد حرجة رغم أن فحوصاتها الحيوية كانت تناقض ذلك. وبالصدفة، انتبه أحد الأطباء لنقص حاد في أحد معادن الجسم، ليعيد إليها الوعي بعد تعويضه، لكنه لم يُعد إليها الحقيقة بما يحدث داخل جسدها.
خرجت ياسمين من غيبوبتها لتدخل في دوامة استمرت 8 سنوات، تنقلت فيها بين عشرات الأطباء والمستشفيات، تحت شعار طبي واحد ومحبط: "لا يوجد سبب واضح" (الأعراض مجهولة السبب)، بينما كانت آلامها حقيقية وقاتلة. لم تنكشف الغمة إلا عام 2020، بعد تعرضها لهجمة شرسة تسببت لها بفقدان للإدراك وتجمع للسوائل في الجسم، مؤكدة أن معرفة اسم المرض كانت الفاصل الوحيد بينها وبين الموت. حينها فقط ظهر التشخيص الصحيح، ياسمين مصابة بـ "مرض مناعي جهازي" بعد اشتباه سابق بالسرطان والعديد من الأمراض. والمفارقة أن هذا التشخيص كان بمثابة طوق النجاة الأخير؛ فبعد الالتزام بالأدوية عادت لتمارس حياتها بشكل طبيعي.
حتى طبيبها المعالج، الدكتور عمر طناش، يستذكر حالتها بذهول بعد سنوات قائلاً: "سبحان الله.. انكتب إلها عمر"، واصفاً نجاتها بالمعجزة بعد أن كانت على بعد خطوة واحدة من النهاية، مؤكدًا أنه وصلت غرفة العناية الحثيثة بتشخيص بعيد كل البعد عن وضعها، وبعلاجات لا تناسب حالتها.
التقت "الغد" العشرينية "أمل" (اسم مستعار)، التي تقف بابتسامة عريضة تمازح الصيدلانية من خلف شباك تسليم الأدوية في أحد مستشفيات الأردن قائلة: "جئت لاستلام المونة!". خلف هذه الابتسامة التي أصبحت درعها اليومي، وأقراص الدواء التي باتت أساسية كالماء، تختبئ قصة صراع طويل بدأ بدوخة وخمول وفقر دم حاد.
وبعد رحلة طويلة من التشخيصات الخاطئة، بما في ذلك اشتباه بالسرطان، جاء التشخيص النهائي: "الذئبة الحمراء، وهو مرض مناعي ذاتي مزمن، يمكن أن يؤثر على أجزاء مختلفة من الجسم، ويحدث عندما يقوم الجهاز المناعي (الذي يساعد عادة على حماية الجسم من العدوى والأمراض)، بمهاجمة أنسجته الذاتية كما لو كانت أنسجة غريبة مما يسبب التهابًا، وفي بعض الحالات يسبب تلفًا دائمًا للأنسجة، فيؤثر بذلك على الجلد والمفاصل والقلب والرئة والكلى وخلايا الدم والدماغ.
كانت صدمة التشخيص مضاعفة بسبب الطريقة القاسية التي أُبلغت بها. تستذكر أمل تلك اللحظة: "جاء الطبيب ليخبرنا بأسلوب قاسٍ ومباشر.. قال لنا: هذا مرض سيلازمك طوال العمر.. يهاجم الكلى، يهاجم القلب.. شعرت حينها أن حياتي انتهت، وأنني لن أعيش"، وهي التي كانت لا تزال تعاني من صدمة معرفة أنها مصابة بمرض مزمن صعب.
ورغم قسوة الخبر، كان الوصول إلى التشخيص الصحيح بمثابة راحة نفسية للمريضات، لأنه يثبت صحة آلامهن. تقول بيان بعد أن تم تشخيصها بداء "كرونز" عقب سنوات من العذاب وتضرر أمعائها: "سعدتُ كثيراً باكتشافهم للمرض، على الأقل وصلت إلى قناعة بأنني مريضة فعلاً، وأن هناك مرضاً يعنيني، وهناك سبب لوجعي". شعرت بيان بأنها "وُلدت من جديد" بمجرد أن وجدت اسماً لألمها.
الخجل الاجتماعي.. معركة ما بعد التشخيص
بمجرد أن يمتلك المريض اسماً لمرضه، تبدأ معركة أخرى، هذه المرة مع النفس والمجتمع. يوضح الأخصائي النفسي أحمد بني مفرج، أن المريض فور تشخيصه يدخل في دوامة من "التفكير الزائد"، حيث يصبح محرك البحث "جوجل" مصدره الأخطر للمعلومات. يقول بني مفرج: "الإنسان بطبعه يذهب لأسوأ الاحتمالات. سيقرأ أن المرض قد يؤدي للوفاة، فيترك كل قصص التعافي ويتمسك بهذه الفكرة السوداوية".
ويحذر من الخطأ الأكبر الذي يرتكبه المحيطون بالمريض وهو "التعامل بنظرة الشفقة؛ فعندما تخفف عليه الطلبات والمسؤوليات، فإنك تحجمه وتشعره بضعفه، وشيئاً فشيئاً يتقمص دور الضحية".
وعلى الجانب الاجتماعي، يكشف طناش عن السؤال الأكثر إيلاماً وتكراراً الذي يواجهه من مريضاته الشابات بعد التشخيص: "دكتور، هل سأتزوج؟ هل سأنجب؟".
ينحدر هذا السؤال من خجل اجتماعي يلاحق النساء المصابات بأمراض مزمنة. ففي مجتمع لا يزال ينظر للمرض كـ "عيب" و"نقص"، يصبح التشخيص حكماً يهدد مستقبل الفتاة بحسب طناش.
ويشير الدكتور طناش إلى أن هذا الخوف المجتمعي هو أحد أكبر العوائق أمام العلاج، قائلاً: "الأهل يرفضون التشخيص خوفاً على مستقبل ابنتهم"، لافتاً إلى أن هذه النظرات والمعتقدات هي مشكلة خاصة بمجتمعاتنا وغير موجودة بنفس الحدة في مجتمعات أخرى خاصة الغربية.
وتعتبر النساء، بحسب طناش، الأكثر عرضة للإصابة بهذه الأمراض المناعية لأسباب جينية ووراثية.
"تجسدت هذه المخاوف بوضوح في واقع "أمل"، حين وقف والدها عائقاً أمام زواجها في البداية.
لم يكن دافعه الخوف عليها فحسب، بل كان الخوف "على من سيتزوجها"، ظناً منه أنها ستكون عبئًا، وأنها فتاة لن تقوى على الإنجاب. ولم تكن "بيان" بمنأى عن هذه الضغوط، اذ حاصرتها الألسن حتى قبل تشخيصها النهائي، محرضة زوجها بعبارة: "تزوج عليها"، وبعد أن عُرف مرضها، تحولت الأحكام إلى نبوءات قاسية: "لن تستطيعي الإنجاب مجددا"، لكن الواقع كذّب كل تلك المخاوف.
تروي أمل، بدعم من زوجها الذي آمن بها، كيف كسرت هذه التوقعات، وتتحدث بـ "حرقة المنتصر" وفخر الإنجاز قائلة: "أنجبتُ طفلي ولادة طبيعية كأي امرأة، رغم كل الأدوية التي أتناولها.. وسأنجب مجدداً. لا شيء في هذا المرض يمنعنا من ممارسة حياتنا وعيش أمومتنا".
أمراض المناعة الذاتية في الأردن
من منظور علمي أوسع تكشف مديرة مركز إربد التخصصي للدراسات السريرية الدكتورة صبيحة ملكاوي عن حقيقة مقلقة: بانتشار أمراض المناعة الذاتية في الأردن، وتوضح قائلة: "العالم كله تفاجأ بأن بلداً صغيراً مثل الأردن يسجل أرقاماً هي من بين الأعلى عالمياً في عدد المرضى". وتشير ملكاوي إلى بيانات محددة، مثل وجود 12,000 حالة تصلب لويحي مسجلة رسميًا، عدا عن الحالات غير المشخصة، مما يؤكد أن معاناة بيان وأمل وندى ليست حوادث فردية، بل جزء من ظاهرة صحية آخذة في الانتشار بشكل لافت بين فئة الشباب تحديداً، حيث يكون جهاز المناعة في ذروة نشاطه في هذه المرحلة العمرية.
الأردن ليس استثناءً من ظاهرة أمراض المناعة الذاتية، حيث تشير بيانات رسمية إلى أن مرضى الداء البطني المصابين بقصور الغدة الدرقية المناعي الذاتي يشكلون نحو 5.7 % من الفئة المدروسة، ما يعكس انتشارًا ملموسًا لهذه الأمراض بين البالغين. وعلى الصعيد العالمي، يُعرف أكثر من 100 نوع من أمراض المناعة الذاتية، وتشير الدراسات إلى أن حوالي 75 % من المصابين هن من النساء، مع تزايد مستمر في أعداد الحالات بسبب التداخل بين العوامل الوراثية والبيئية والضغط النفسي ونمط الحياة الحديث.
أما السوق العالمي لتشخيص هذه الأمراض، فيقدر حجمه بحوالي 6.17 مليار دولار في 2025، ومن المتوقع أن يصل إلى أكثر من 8.9 مليار دولار بحلول 2030، ما يعكس الحاجة المتزايدة للفحوصات الدقيقة والعلاجات المتقدمة، في حين يبقى الوصول إليها تحديًا كبيرًا في الأردن نظرًا للتكلفة المرتفعة والعوائق المجتمعية.
تروي ملكاوي لـ "الغد" حالة شاب من أصحاب أمراض المناعة الذاتية، وصل إلى المركز في حالة صحية حرجة، حيث سجل مؤشر نشاط المرض لديه "37 درجة"، في وقت يُعتبر فيه تسجيل 6 درجات كافياً لتصنيف الحالة بالنشطة، حتى أن الفريق الطبي أطلق عليه مازحاً لقب "الأول على الصف" لشدة ما رأوه في أمعائه.
كان الشاب على حافة الخطر، لكنه اليوم، وبفضل العلاجات الحديثة، عاد لممارسة حياته بصحة تامة، ليقدم دليلاً حياً على أن هذه الأمراض، ورغم شراستها، يمكن ترويضها إذا شخصت بدقة، وعولجت بالطريقة الصحيحة.
وعن أسباب هذا الارتفاع، يوضح طناش أن السبب ليس واحداً، بل هو تفاعل معقد بين عدة عوامل. بالإضافة إلى الاستعداد الجيني والوراثي، تلعب البيئة الحديثة دوراً محورياً. يقول طناش: "الشدة النفسية هي ما يفاقم ظهور الأعراض"، مشبهاً طبيعة المرض بـ "حيوان مفترس" يهاجم صاحبه، ويعتبر الضغط النفسي أكبر عامل يوقظه. ويضيف أن نمط الحياة السريع، والأكل الجاهز، والمواد الصناعية، كلها عوامل تساهم في إحداث خلل في جهاز المناعة".
تفسر ملكاوي سبب طول رحلة التشخيص بأن المريض غالباً لا يراجع الطبيب المختص الصحيح، فالأمراض المناعية تظهر بأعراض متشعبة تصيب المفاصل والعيون والجلد، مما يشتت المريض بين تخصصات مختلفة قبل الوصول إلى التشخيص الدقيق.
ورغم صعوبة الرحلة، تؤكد ملكاوي أن الأمل يكمن فيما تصفه بـ "ثورة في عالم الطب"، وهو العلاج البيولوجي الذي يحقق "خمولاً سريرياً" للمرض. لكن التحدي الأكبر يبقى في التكلفة الباهظة لهذه العلاجات التي قد تصل أحياناً إلى "450,000 دولار بالسنة"، مما يجعل الوصول إليها بعد انتهاء الدراسات المجانية حلماً بعيد المنال للكثيرين، وهو العلاج الذي ساعد "بيان" وأخريات على استعادة جزء من حياتهن.
في بلدٍ تتكاثر فيه أمراض المناعة الذاتية بصمت، لا تبدو معركة المرض هي الأصعب، بل معركة الاعتراف به وتشخيصه في الوقت المناسب. فكل تأخير لا يعني انتظارًا محايدًا، بل فقدان صحة، وتآكل ثقة بين المريض والمنظومة الصحية.
قصص بيان وأمل وندى وياسمين ليست حكايات فردية، بل إشارات تحذير إلى خلل أوسع، يحتاج إلى وعي طبي مبكر، ونقاش مجتمعي أقل قسوة، وسياسات صحية تُنصت للجسد حين يصرخ، لا حين ينهار. فالتشخيص ليس مجرد اسمٍ لمرض، بل بداية حياة يمكن إنقاذها قبل أن تُستنزف في متاهة الألم الذي لا يُرى.