عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    07-Aug-2025

أن تفكر كفلسطيني..! (1)*علاء الدين أبو زينة

 الغد

«أن تفكر كفلسطيني» عنوان مفخخ. إنه يفترض –قَبليًا- وجود تجربة أو رؤية عالمية فلسطينية موحدة، في حين أن الحالة الفلسطينية في الواقع مبتلاة بقدر هائل من التمزق –جغرافيًا، وقانونيًا، وجيليًا. وبذلك ينطوي العنوان على المجازفة باختزال هوية وطنية معقدة شكلتها خبرة المنفى، والاحتلال، والتجريد من الأرض والهوية، إلى جوهر بسيط واحد، وبأن يستدعي التمحيص والتشكيك من مختلف أنواع القوى التي عادة ما تستهدف التعبير السياسي الفلسطيني بالتجريم والتجريد من الشرعية. وحتى ضمن السياق الفلسطيني نفسه، قد يثير هذا العنوان جدلًا حول ما الذي يمكن اعتباره، لدى تأمل التوترات العميقة في الخطاب الوطني، تفكيرًا فلسطينيًا موثوقًا، مؤصلًا ومشروعًا: المقاومة، الدبلوماسية، البراغماتية، أم المثالية؟
 
 
أن تفكر كفلسطيني يعني أن تنخرط بشكل واع مع حالة سياسية شكلها التشريد، والتشظي، والتنازع المستمر على الهوية، والمكان والحقوق. إنه يعني مقاربة السياسة لا كمجرد ترتيبات مؤسسية أو انتماءات حزبية، وإنما كواقع معيش تحكمه معادلات الاحتلال، والمنفى، والمقاومة. وهو مغامرة، تتطلب الوعي بالأبعاد البنيوية للكولنيالية، ومركزية حق العودة، والتوترات بين التمثيل والشرعية، والعبء التاريخي الذي صنعته قيادات وطنية عجزت في معظم الأحيان عن الاضطلاع بالمهمة. إنه يتضمن إعمال عدسة نقدية تستنطق السرديات المهيمنة، سواء كانت مفروضة خارجيًا أو معادة الإنتاج داخليًا، وتصر على تأصيل التحليل السياسي في التجارب المعيشة للفلسطينيين داخل وخارج فلسطينيين التاريخية.
 
وثمة التوتر الذي يستدعيه العنوان بين أن تفكر كفلسطيني (واحد) وأن تفكر كما يجب أن يفكر (كل) فلسطيني، وهو ما يطرح معضلة مركزية عندما يتعلق الأمر بصياغة –والتعبير عن- وعي وطني جماعي في ظل حالة التمزق. أن تفكر كفلسطيني (واحد) يعني التحدث من موقع مخصوص -متجذر في التجربة الشخصية، أو الذاكرة التاريخية، أو القناعة السياسية- مع بقاء المرء واعيًا لذاتيته وانحيازاته ضمن الفسيفساء الوطنية الأوسع. وهو موقف يسمح بالتعددية، ويعترف بأنه ليس ثمة صوت واحد يُمكنه تمثيل الحالة الفلسطينية بشموليتها. وعلى النقيض، يجازف الموقف الثاني بفرض وصفة لرؤية معيارية ومتسلطة لماهية التفكير الفلسطيني، غالبًا ما تكون متأسسة على أيديولوجية مُحددة أو مجموعة من المظالم التاريخية، وهو ما قد يُهمّش الأصوات البديلة ويستبعد الرأي المعارض. ويعكس هذا التوتر الصراعاتٍ الأعمق على الشرعية، والتمثيل، وسلطة السرد في سياقٍ أنتج فيه المنفى، والاستعمار، والتشرذم السياسي، أفهامًا مُتنوعًة، بل ومُتنافسة أحيانًا، لما يعنيه أن تكون فلسطينيًا، وكيف ينبغي للمرء أن يُفكّر، أو يُقاوم، أو ينتمي.
وقد يقترح العنوان أيضًا دعوة الآخر، غير الفلسطيني بيولوجيًا، ليفكر كفلسطيني -أو كالفلسطيني. وهي دعوة يمكن أن تكون وجيهة بقدر ما قد تكون إشكالية –حسب الطريقة التي تُؤطَر، وتُفهم بها، هذه الدعوة. من جهة، يمكن أن تعمل كتمرين سياسي وأخلاقي –دعوة إلى التعاطف، والوعي التاريخي، والانخراط النقدي مع بنى القمع أينما وكيفما وُجدت. وبهذا المعنى، تدعو العبارة إلى تحدي السرديات السائدة، وتشجع التضامن، وتفتح مساحات لفهم أعمق للتجربة الفلسطينية يذهب أبعد من الصور الكاريكاتورية الإعلامية أو التجريدات الجيوسياسية.
لكن مشروعية هذه الدعوة تصبح -من جهة أخرى- أكثر تعقيداً حين توحي بمطالبة الآخر بتماهٍ مطلق مع حالةٍ ليست له –لا بنيويًا ولا وجوديًا. ثمة في هذه الحالة مغامرة بالاستيلاء، أو التبسيط، أو التحدّث «نيابةً عن» الفلسطينيين بدلاً من «التحدث مع الفلسطينيين». لا يمكن أن يعني التفكير كفلسطيني تقمص وتكرار التجربة المعيشة للاستلاب، والتهجير، والمنفى، والاحتلال. إنه يعني مقاربة العالم بوعي تشكله هذه الحقائق من دون ادعاء التماهي التام معها.
سوف تكون هذه الدعوة مشروعة فقط طالما كانت مقرونة بالتواضع، واليقظة السياسية، ورفض تحويل المعاناة الفلسطينية إلى أداة وظيفية. وعندما لا تكون دعوة إلى أن يصبح «الآخر» فلسطينياً، وإنما دعوته إلى استنطاق الأطر السائدة، وإعادة توجيه فهمه، بطريقة نقدية، للعدالة، والسلطة، والمقاومة -من خلال عدسة فلسطينية.
وربما يكون اقتراح التفكير كفلسطيني حاجة فلسطينية داخلية –دعوة للفلسطينيين أنفسهم إلى تبني مزاج من التفكير متأسس في تجربتهم التاريخية والسياسية الجماعية. وبهذا المعنى، لا تكون هذه دعوة إلى التعاطف من الخارج بقدر ما هي استحضار للوعي النقدي بالذات من الداخل. في سياق التمزق الذي يعتري الشعب الفلسطيني -جغرافيًا وسياسيًا، بل وحتى أيديولوجيًا- يحث الاقتراح الفلسطينيين على مقاومة السرديات الاستعمارية التي لا تني تترسخ، وإغراءات الاندماج، ومحاولات طمس المبادئ الوطنية التأسيسية -حق العودة، على سبيل المثال.
أن «تفكر كفلسطيني» هنا لا يعني الامتثال لهوية واحدة مكتوبة في وصفة. إنه يعني الحفاظ على توجه يضع نصب العين البنى القائمة على الاستلاب والمقاومة التي تعرّف الحالة الفلسطينية، ويطالب بالانتباه إلى شمولية الشعب الفلسطيني –ليس الذين في الأرض المحتلة فحسب، بل أيضًا أولئك في مخيمات اللاجئين، تحت الحصار، أو المهمَّشين في الشتات. وهو يتحدى الرضا عن الذات، والتشظي السياسي، والخطابات المتحولة التي تتكيف بسهولة مفرطة مع الأطر التي يحددها المستعمِر أو أولويات «الدبلوماسية الدولية».
وقد يكون اقتراح «التفكير كفلسطيني» أيضًا طريقة لصياغة موقف ذات فلسطينية واحدة تعيش في المنفى؛ محاولة لتأمل الكيفية اتي يتفاعل بها أناس يحملون عبء التشريد والنكبة والتمزق التاريخي سياسيًا وفكريًا مع القضية الفلسطينية. وبهذا المعنى، لا تدعى نتاجات اقتراح «التفكير كفلسطيني» تمثيل جميع الفلسطينيين، ولا تفترض ذاتية وطنية متجانسة. إنها تعرض تموضعًا محددًا: موقف فلسطيني في المنفى يحاول الملاحة بين الذاكرة والمحو، والانتماء الوطني والتهميش العملي، والالتزام السياسي والإقصاء الهيكلي.
بذلك يكون «التفكير كفلسطيني» في المنفى مزاجًا نقديًا «متموضعًا»، يجسد –ويستنطق- تناقضات حركة وطنية غالبًا ما همّشت الشتات لصالح براغماتية إقليمية مُجزّأة، وجهدًا لاستعادة الصلة والشرعية لخطاب يُواجه خطر الاحتواء أو التمييع. وفق هذا التصوّر، لا تقصد أي أفكار تسفر عنها محاولة «التفكير كفلسطيني» أن تقدم نفسها كرؤية كونية موحِّدة ولا وصفة قاطعة، وإنما كمجرد تأمل ذاتي: التفاتة نحو فكرٍ متصل بجذور، واعٍ تاريخيًا، ومنتبهٍ سياسيًا لمخاطر المحو، خاصة بالنسبة لأولئك الذين جُعلوا غير مرئيين في التمثيلات السائدة للحالة الفلسطينية.