عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    08-Nov-2025

اللقاءات مؤجلة والحضور رقميا.. هل يتآكل مفهوم القرب بصمت؟

 الغد-ديمة محبوبة

 في السابق كان التواصل الوجاهي هو سيد الموقف، فكانت الحياة تعج بالحركة والزيارات بلا توقف وتشكل نبضا للأسبوع ولأيام الإجازات، لكن اليوم بالكاد تقرع الأبواب، والحضور التام هو للسوشال ميديا، إذ يتم تفقد الأحباب عبر رسائل الواتساب وعبر "ريلز" الإنستغرام، حتى وجوه الأهل ترى غالبا عبر شاشة رقمية.
 
 
هذا لا يعني أن الزيارات الاجتماعية العائلية تلاشت تماما، لكن لم يعد الأمر كما كان سابقا، ويعزو خبراء الأمر إلى أن التواصل اليوم شبه يومي، والحوارات نوعا ما شبه يومية بين الأفراد عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، ومعرفة جديد فلان أو فلانة تكون عبر هذه الوسائل، ما جعلها عوضا عن الزيارات التي كانت تجمع الأحبة.
 مكالمات رقمية جماعية 
في منزل "أبو الأمين"، تعودت الأم على أن تجمع أفراد العائلة كل أحد مساء، لكن هذا اليوم تغير بالتدريج، إذ بات الاجتماع يتم كل أسبوعين، مبينة أن الاتصالات شبه يومية بينها وبين أبنائها. حتى إن كل يومين تقريبا، تجري مكالمة جماعية بينها وبين أبنائها وعائلاتهم، يتم من خلالها معرفة الجديد والاطمئنان عليهم وتبادل النكات والمقالب، ما يجعلها عوضا عن التجمعات الدورية.
وتؤكد أن " لا شيء يحل او يعوض مكان تلك الجمعات، لكن مع الظروف الصعبة للجميع وكثرة الأشغال، ومع توفر وسائل جديدة تجعلنا نشعر بالقرب، فهذا أفضل من لا شيء".
في حين يؤكد أمين أن الزيارات قد تصبح عبئا ثقيلا في كثير من الأحيان، أو أن الاستسهال في استخدام التواصل عبر وسائل التواصل الاجتماعي جعله بديلا عن بعض اللقاءات كما كانت في السابق.
ويضيف أن هذا الأمر لا يلمسه فقط في عائلته، وإنما يسمعه أيضا من زملائه في العمل، ما يشي بتغير بنيوي في نمط العلاقات بين الأجيال، وانتقال من الحضور الفيزيائي إلى الحضور الرقمي.
 تعاظم مفهوم الفردية 
ويشير اختصاصي علم الاجتماع الدكتور حسين خزاعي إلى أن غياب مفاهيم الأسرة الممتدة أدى إلى نشأة جيل يربي أبناءه على حدوده الخاصة، وهذا كان بداية التطور لما يعاش اليوم، حيث أصبحت وسائل الاتصال الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي بديلا عن اللقاء المباشر، بدل أن تكمل الحضور.
ويضيف أن الكثير من الفيديوهات اليوم تؤكد على مفهوم الفردية، وبأنها أفضل لحياة صحية بعيدا عن خذلان الناس، لكن هذه الفيديوهات وهذه الأقوال تيسر على عكس الطبيعة البشرية الجمعية.
وينوه بأن الكثير من الناس تبرر هذا السلوك بكثرة الانشغال بتفاصيل الحياة والوظائف المتعددة وساعات العمل الطويلة والإحساس بأن الزيارة العائلية أو الاجتماعية ما هي إلا رفاهية لا وقت لها، فيما لعبت "الفردانية الحديثة" دورا في إضعاف الروابط العائلية، وجعلت الفرد محركا رئيسا لنشاطه الاجتماعي، في حين أصبح المجتمع الروحي أو العائلي أقل حضورا. 
وتؤكد المرشدة النفسية والتربوية رائدة الكيلاني أن الاعتياد الرقمي أضعف الرغبة بالحضور الفعلي، فصارت العلاقات ترضى بإيموجي أو رسالة صباحية بدل ضحكة مباشرة أو حضن، مشيرة إلى أن التواصل العاطفي المباشر يتطلب حضورا نفسيا وجسديا.
ويرى خزاعي أن تفكك العلاقات العائلية المباشرة لا يعني مجرد غياب اللقاءات، بل يصل إلى ضعف دعامات التنشئة الاجتماعية التي كانت الأسرة تقدمها.
 فقدان مهارات التواصل الحي
ومن جهة أخرى، تقول الكيلاني "إن الأفراد الذين لا يزورون عائلاتهم يظهرون في بعض الحالات فراغا عاطفيا، فبدلا من أن اللقاءات وحل المشاكل أو تشارك الفرح أصبح التعبير بأرسل رسالة أو أضغط لايك".
وتبين أن هذا له أثر كبير على الأطفال الذين لا يرون تماسكا عائليا أو حضورا فعليا للأقارب فيكبرون على نموذج تواصل مكون من صورة شاشة، ما قد يضعف لديهم مهارات التواصل الحي.
ويؤكد خزاعي بأن العائلات التي تعيش في العاصمة أو محافظة مختلفة عن عائلاتها الممتدة فإنه من الملاحظ أن عدد الزيارات لهم قل بشكل كبير خلال الأعوام الأخيرة، والذي بدأ تحديدا بعد وباء كورونا والخوف من الاختلاط.
ويضيف خزاعي رغم أن بعضهم يشعرون بالذنب لعدم قدرتهم على الزيارة، ويعوضونها بمكالمة أو رسالة. لكن في المناطق الريفية، ما تزال الزيارات حية أكثر. ويختصر أن التحول في العامل العاطفي و أن الحضور الرقمي لا يعوض الدفء المباشر.
 استثمار التكنولوجيا كجسر لا كبديل
ولتقليل آثار هذا التحول، يقترح خزاعي على تشجيع مواعيد زيارة ثابتة، وتعزيز قيمة الحضور الجسدي، واستثمار التكنولوجيا كجسر لا كبديل، إضافة إلى التربية والتوعية في المدارس حول أهمية الأسرة الممتدة، وإدراج زيارة الجيران والأقارب ضمن الفعاليات المجتمعية.
وأن ظاهرة "جيل لا يزور أحدا" ليست مجرد تغير عابر في عادات اللقاء، بل انعكاس لتحولات تقنية وثقافية ونفسية أعمق. فالتواصل الرقمي وحده لا يكفي لبناء علاقة إنسانية وأن الحياة الحقيقية تحتاج ضحكة، عناقا، حضورا، وعددا من الثواني التي تبقى في الذاكرة أكثر من ألف رسالة.
 ويقول خزاعي: "التواصل الحقيقي ينبع من الجسد قبل أن ينبع من الشاشة". وتقول الكيلاني: "نحن بحاجة إلى أن نكون مع بعضنا عاطفيا لأجل أنفسنا".