غزة.. تجويع وإبادة ولعنة الضمير العالمي*د. محمد رسول الطراونة
الراي
ما تشهده غزة اليوم يتجاوز كل وصف، إنه ليس مجرد احتلال ودمار، بل اختبار حقيقي لإنسانية العالم وضميره. المشهد في غزة تحوّل إلى كابوس يومي، حيث تذوب الحدود بين الحياة والموت في بوتقة من المعاناة الإنسانية التي تُنفذ بمنهجية مروعة، أطفال نجوا من تحت الركام، ليقضوا نحبهم بعدها ليس بسبب القنابل، بل بسبب الجوع والعطش ونقص الأدوية، في صمتٍ مريب يكسر القلوب قبل أن تكسر الأجساد من شدة الهزال.
هذه المأساة ليست وليدة الصدفة، وليست نتيجة لنقص في الموارد، بل هي قرار سادي من محتل غاصب مُتعمَّد يتم تنفيذه عبر إغلاق المعابر ومنع دخول الغذاء والدواء والوقود، إنه حصار تجويع يذكرنا بأبشع جرائم التاريخ، حين تُحرم شعوب بأكملها من أبسط مقومات الحياة. لقد حوّلوا غزة إلى سجن مفتوح وساحة للابادة، قطعوا عنها كل سبل العيش، ليتركوا الناس أمام خيارين مرّين: إما الموت الفوري تحت وطأة القصف، أو الموت البطيء بسبب الجوع والمرض. هذه ليست حرباً على مقاتلين، بل هي إبادة جماعية بحق مدنيين: أطفال، نساء، شيوخ، ومرضى، حتى حاضنات الأطفال الخدج تحولت إلى نوافذ للموت، حيث ينقطع الأوكسجين وينفد الوقود كأداة للقتل البطيء، في سياسةٍ مُعلنة تهدف إلى تعميق المعاناة وكسر الإرادة.
في خضم هذه الكارثة الإنسانية، يبرز سؤال وجودي يلح على الضمير: أين العالم؟ أين الضمير الإنساني الذي تتفاخر به الحضارات؟ لقد وقف العالم متفرجاً وهو يرى جوعاً مُخططاً له وتطهيراً عرقياً يحدث أمام كاميرات الصحفيين وعلى شاشات التلفزة. التاريخ سيسجل بحروف من نار كيف مات الأطفال في أحضان أمهاتهم، ليس بسبب القنابل وحدها، بل بسبب قرارٍ غاصب بمنع الطعام والدواء، كيف سقطت المستشفيات بعد حرمانها من الكهرباء، وكيف تحولت مدارس الأونروا–التي كانت ملاذاً للأبرياء–إلى مقابر جماعية، وكيف أن المنظمات الدولية التي أُسست لحماية حقوق الإنسان تقف عاجزة أو متواطئة، فاقدة للمصداقية في أعين الشعوب.
لكن قوانين الكون لا تخون، والسماء التي تسمع أنين الأبرياء لا تصمت للأبد، لقد بدأت لعنة غزة تظهر آثارها بالفعل، الحكومات التي دعمت الجريمة أو سكتت عنها تواجه عزلة متزايدة وغضباً شعبياً عارماً لا يقتصر على العالم العربي والإسلامي، بل امتد إلى ضمائر الملايين حول العالم. اليهود في أوروبا يخفون هويتهم خوفاً من ردود الفعل الغاضبة على السياسات الإسرائيلية، المؤسسات الدولية التي وقفت متفرجة فقدت شرعيتها ومصداقيتها، والشعوب في كل مكان تدرك أن ما يحدث في غزة هو محك حقيقي للضمير الإنساني، وأن من يقف في الصف الخطأ اليوم سيجد نفسه في الجانب المظلم من التاريخ غداً.
لقد تحولت غزة من قطعة أرض إلى رمز عالمي للمقاومة والكبرياء، وإلى شاهد حي على الانهيار الأخلاقي للعالم الذي يدّعي التحضر والرقى، إنها ليست مجرد قضية سياسية، بل أصبحت قضية إنسانية تفضح ازدواجية المعايير وتكشف زيف الشعارات البراقة، إنها لعنة الضمير، ولعنة الحقيقة التي لا يمكن قتلها، مهما طال الحصار، ومهما اشتد الجوع، إنها صرخة في وجه الظلم لن تختفي، بل ستتردد صدى عبر الأجيال.
حذار.. حذار من لعنة غزة: لعنة الأرض العطشى التي ارتوت بدماء أبنائها، والسماء التي سمعت أنين أطفالها، والرياح التي حملت غبار شهدائها إلى كل أصقاع الأرض، حذار من عدالة التاريخ، فهو قاضٍ عادل لا يرحم الظالمين، ولا يغفر للصامتين. غزة، برغم كل الجراح، ستظل شاهداً حياً على هذه الحقيقة، نصب عينيّ العالم، إلى أن تتحقق العدالة، ويُنصف الأحياء منهم والأموات، فدماء الشهداء وأنين الأطفال وصمود الأمهات لن يذهب سدى.