المدن -
ما أقدم عليه لبنان في الأيام الأخيرة ليس أمراً مفاجئاً. فالرئيس جوزف عون أعلن أكثر من مرة أن ليس أمامنا إلا خيار التفاوض، ومؤكداً أن لا أحد يتحدث عن التطبيع. الرئيس نواف سلام قال بوضوح وفي أكثر من مناسبة: " نحن نريد التفاوض واسرائيل لا تريد. طالبنا الولايات المتحدة بالدفع في هذا الاتجاه ولا نزال ننتظر ". الرئيس بري أبلغ الموفدة الأميركية أورتاغوس أنه لا يمانع في أن يكون التفاوض عبر الميكانيزم وأن يتم إدخال خبراء مدنيين لبنانيين اليها. إذاً ما تمّ هو ترجمة لهذه الإرادة بمعزل عن رأي هذا الفريق أو ذاك بالشخصية التي وقع الخيار عليها وهي السفير سيمون كرم. أميركا رحّبت. وعقد أول اجتماع بمشاركة كرم. المهم ماذا يريد لبنان. ماذا ستفعل اسرائيل. ما هو دور أميركا ومسؤوليتها وهل ستساعد لبنان فعلاً لتحقيق استقرار دائم على الحدود.
-ما يريده لبنان واضح: تحرير الأرض. استعادة الأسرى. إعادة الأهالي إلى الجنوب ووضع برنامج لإعمار المنطقة وقد قامت الدولة بخطوات وإجراءات مهمة حتى الآن من خلال الجيش بتنفيذ قرارات حصر السلاح بيدها وهي مستمرة في هذا الاتجاه. في وقت لم تنفذ اسرائيل كلمة من قرار وقف الأعمال العدائية بل وسّعت عدوانها وقتلت واحتلت وتهدّد بالقيام بما هو أخطر مما حصل حتى الآن. مسار التفاوض انطلق بآليته الجديدة. ما يحميه وحدة الموقف اللبناني. وإضافة إلى كلام الرؤساء كان كلام للبطريرك الراعي أكد فيه ان التفاوض ليس من أجل التطبيع. وقال السفير الفرنسي هيرفي ماكرون: ما يحدث في الميكانيزم ليس مفاوضات سياسية بل نقاشات تقنية عسكرية. المرحلة أخطر وأصعب وأدق من كل المراحل السابقة التي مررنا بها ويجب أن يكون الجميع بمستوى أدائها بأعلى درجات المسؤولية. اي تنظير وادعاء بطولات سابقة وحالية في سياق التفاوض، وتخوين وتشكيك واتهام وعبثية وفوضى سياسية وفكرية لا يخدم لبنان ومصالحه والفريق المفاوض الذي يجب أن يحسن تنفيذ المهمة الموكلة اليه في وجه عدو عرف بالمناورة والخداع ويستقوي بآلته الحربية وبالغطاء الأميركي الممنوح له سياسياً ودبلوماسياً وأمنياً.
-حتى الآن كل المعلومات الواردة من اسرائيل عبر قنوات دبلوماسية وموفدين دوليين ومطلعين تشير إلى أنها لا تريد تقديم أي شيئ. واستمرار الضغط على الطرف اللبناني والاستفادة من الرهان على الانقسام الداخلي والأصوات والمواقف اللبنانية التي ترتفع "بجرأة " كما يقول ممثلوها الرسميون، وتبرئ الجيش الاسرائيلي من العدوان وتحمّل المسؤولية لحزب الله، إضافة إلى دور يقوم به عدد من اللبنانيين في أميركا يصبّ في هذا الاتجاه وذهب إلى المجاهرة بضرورة تنفيذ خطوات هستيرية إذا لم يرضخ الآخرون !! ثمة من قال: " إن أقصى ما يمكن أن تقدم عليه اسرائيل هو تقليص عدد جنودها تدريجياً في المواقع المحتلة داخل لبنان ". " لكن لا وقف للضربات ". وقد ترجم ذلك مباشرة بعد اجتماع لجنة الميكانيزم بمشاركة المفاوض المدني وحضور المندوبة الأميركية. حتى الآن لم تلتزم اسرائيل بشيئ. وقد لا تلتزم. وإذا أشارت إلى أمر ما فهي لن تتخلى عن قناعتها: " نحن أمام فرصة تاريخية لن نفوّتها. نريد استثمارها حتى النهاية. لن نقبل وجود حالة داخل لبنان تهدّد أمننا واستقرارنا ". خطورة هذا الأمر ترجمت بالتركيز على مشروع المنطقة الاقتصادي المنوي تنفيذه في الجنوب وهو المشابه للمشروع المعدّ لمستقبل غزة ولذلك كانت إشارات نتانياهو للعلاقات الاقتصادية كبند في إطار عملية التفاوض وعاد الحديث عن ترسيم الحدود البحرية الموقّع وإعادة النظر به، وربط كل شيء بمسار التفاوض. " مطلوب منطقة خالية من السكان. بعد أن يقوم الجيش اللبناني بـِ " تنظيفها " وتفتيش كل المنازل والممتلكات الخاصة !! ضمن مهل زمنية محددة شمال الليطاني وإعلان القبول المبدئي بذلك ". وفي المنطقة الاقتصادية المذكورة " تعطى تصاريح عمل لدخول العاملين اليها وتوضع آليات مراقبة خاصة بالحركة فيها وبمحيطها ". وهذا يعني أن نتانياهو الحالم بأن يرث بن غوريون الأول المؤسس فيكون هو بن غوريون الثاني المكرّس اسرائيل الدولة الكبرى المتفوقة في المنطقة، يريد أن يكمل دربه لتحقيق المهمة الالهية المكلف بها. أين تقع مسؤولية أميركا في مواجهة هذا الحلم المجنون الخطير وما يستهدف بلدنا.
-واضح تماماً أن الرئيس ترامب يضغط على نتانياهو لتنفيذ اتفاق غزة الذي يحمل اسمه وقد أعلن ضرورة الاستعداد لتنفيذ المرحلة الثانية من الانسحاب الاسرائيلي من غزة وتشكيل مجلس السلام برئاسته ومشاركة طوني بلير وجاريد كوشنير وستيف ويتكوف وهو يعتبر ان هذا أهم إنجاز حققه على طريق " السلام ". كذلك يضغط على نتانياهو " لوقف تجاوزاته " في سوريا بعد استقبال الشرع في البيت الأبيض ورفع العقوبات والسعي " إلى تكريس الشراكة " معه في مواجهة الارهاب، والوصول إلى سلام، وهو لم يعرقل أي أمر تمّ الاتفاق عليه " كل هذا واضح. ومعلن. لكن الأوضح أن ليس ثمة أي ضغط لإلزام اسرائيل بتنفيذ ما تمّ الاتفاق عليه بشأن لبنان. وهنا تكمن الخطورة. هل تركت ساحة لبنان ميداناً يستخدمه نتانياهو لتحقيق أغراضه وأهدافه واستعراض قواته بموازاة العمل على حمايته من المحاكمة في اسرائيل وإصدار عفو فيذهب إلى الانتخابات قوياً ويعود بطلاً كما يسميه ترامب مفاخراً بانجازاته التي لم يسبقه إليها احد في تاريخ اسرائيل خلال مدة زمنية قصيرة.يبدو لبنان متروكاً حتى الآن. ويجب الاستعداد لمواجهة أسوأ الاحتمالات مع نتانياهو وهوسه. هنا أهمية خطوة الذهاب إلى التفاوض وضم مدنيين في لجنة الميكانيزم. وكما قلت، هذه ليست خطوة مفاجئة، واستمرار العمل بكل جدية مع أميركا وداخلها وغيرها من القوى والدول الصديقة الصادقة في مواقفها تجاهنا. كان رئيس الجمهورية واضحاً بمطالبة سفراء مجلس الأمن اثناء اجتماعه بهم بحضور الموفدة الأميركية أورتيغوس وفي لقاء منفرد معها مساعدة لبنان وتنفيذ خطوات تدعم الموقف اللبناني. هذا يتطلب دعماً وطنياً واحتضاناً للموقف الرسمي. المفارقة الخطيرة أن ثمة فريقاً لا يريد مبدأ التفاوض وينتظر مفاوضات في الخارج بين إيران وأميركا أو بينها وبين دول عربية معينة علّه يحقق مكاسب ما. وهذا رهان ليس في محله. وان ثمة فريقاً آخر لا يريد أيضاً المبدأ ذاته لأنه يرغب في التخلص من الفريق الأول واستكمال الحرب المفتوحة ضده. وكل هذا ليس في مصلحة لبنان