عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    19-Jun-2025

أيام الفيلم الفلسطيني.. روايات تكسر التكرار وتستعيد الوجدان

 الغد-إسراء الردايدة

بينما تواصل المجازر في غزة اقتلاع البشر والحجر، وتغرق الشاشات يوميا بمشاهد الدمار والدماء، يصبح الفن، وتحديدا السينما، ضرورة وجودية لا تجميلية، ولذا فإت أيام الفيلم الفلسطيني لا تأتي هنا كبديل للواقع، بل كمرآة حادة تكشف لنا تفاصيله المنسية، وتعيد للقصص الإنسانية حقها في أن تُروى من جديد، بعيدا عن التكرار البارد في نشرات الأخبار.
 
 
 
من خلال 6 أفلام تنطلق عروضها المجانية اليوم في مسرح وسينما الرينبو، يستعيد هذا الحدث البعدين العاطفي والسياسي للحكايات الفلسطينية، ويمنحها فضاء إنسانيا حميميا.
 
 
 
أفلام تتنوع بين الوثائقي والميداني، وبين التأملي والشخصي، لكن يجمعها هم واحد: أن تروي عن فلسطين من لحمها الحي، لا من شعارات جاهزة.
 
 
وتتحدى بعض هذه الأفلام الروايات التاريخية المهيمنة، وتضيف طبقات من التعقيد والشدة إلى القصة الفلسطينية. من خلال تقديم وجهات نظر بديلة، تدعو هذه الأعمال المشاهدين إلى إعادة النظر في السرديات الغربية المهيمنة حول الكيان الصهيوني، وتشجعهم على التشكيك فيما يروى إعلاميا عن هذا الصراع من خارج سياقه الحقيقي.
 
 
 
هذه الأفلام روايات تتحدى الصورة النمطية وتمنح المشاهد فرصة للإنصات إلى ما لا يقال في الأخبار، بل يحس ويعاش.
 
 
 
أبو لغد: السينما لا تترجم الوجع فقط بل تعيده إلى الناس بلغة الوجدان
 
في تصريح خاص لـ"الغد"، يقول طارق أبو لغد، الشريك المؤسس والمدير التنفيذي لـ"الشبكة العربية للإعلام" (مسرح وسينما الرينبو)، إن السينما، في ظل مشهد إنساني يستنزف مشاعرنا يوميا، قادرة على كسر التبلد لا عبر الصدمة، بل من خلال الحميمية، والعمق، وإعادة تشكيل العلاقة بين الإنسان والصورة.
 
 
مضيفا "الفن، في أوقات الألم، لا يأتي بديلا عن الواقع، بل مرآة له ونافذة لفهمه. التبلد الذي نلحظه ليس قسوة، بل إنذار باستنزاف الإنسان عاطفيا أمام صور متكررة للعنف والمجازر. من هنا تأتي أهمية السينما، لا بصفتها مجرد وسيط بصري، بل كفعل مقاومة وتأمل".
 
 
ويتابع: "نحن لا نتحدث بلغة غريبة عن الناس، بل نترجم الوجع بلغة الوجدان، ونمنح المشاهد فرصة لاستعادة إنسانيته أمام سيل الأخبار. السينما تمنح كل قصة فلسطينية صوتا متفردا، وجسدا حيا، وتفصيلا لا تتيحه النشرات الإخبارية".
 
 
هذا التصور لم يكن نظريا في تنظيم "أيام الفيلم الفلسطيني"، بل كان مبدأ موجها لاختيار الأفلام، وتحديد هوية المكان، وشكل الشراكات. فالمهرجان اختار أن يعرض في مسرح الرينبو، أحد الفضاءات الثقافية البديلة التي حملت في ذاكرتها صوتا فنيا نقديا تقدميا عبر السنوات.
 
 
وبحسب أبو لغد، فإن اختيار هذا المكان بالذات هو تأكيد على أن سياق العرض جزء لا يتجزأ من الرواية. حين يعرض فيلم فلسطيني في قاعة حملت على جدرانها أصواتا حرة وفعاليات ذات طابع نقدي، فهذا يضفي بعدا سياسيا ومعنويا للمشاهدة.
 
 
كما أشار إلى التحديات في التمويل، قائلا "الحصول على تمويل أو دعم لعرض أفلام فلسطينية ما يزال يواجه تحديات كثيرة، ليس فقط بسبب الرقابة الرسمية، بل أحيانا بسبب الرقابة الذاتية التي تمارسها بعض المؤسسات والممولين خوفا من الإحراج السياسي. رغم ذلك، هناك تغير تدريجي، وهناك جهات باتت ترى أن دعم هذا النوع من السينما هو موقف ثقافي وأخلاقي".
 
 
ويختتم أبو لغد تصريحه بالإشارة إلى التوازن الصعب في اختيار الأفلام، قائلا "الوجع الفلسطيني ليس مادة للاستهلاك البصري، ولا مجرد حالة إنسانية تعرض بنمط واحد. سعينا لتقديم طيف واسع من التجارب، من الوثائقي المباشر إلى السرديات الرمزية. ما أردناه هو أن يشعر المشاهد أن كل فيلم يتحدث عن إنسان حقيقي، عن تجربة حية، من دون الوقوع في فخ التكرار أو الابتذال".
 
 
وأضاف "في زمن صار فيه الألم متكررا لدرجة فقدان الصدمة، تقدم هذه الأفلام الفلسطينية وجوها وقصصا وتجارب تمنح المعاناة بعدا ملموسا، وتكسر التكرار الإخباري البارد. من مستشفيات غزة إلى شواطئها، ومن أزقة النصيرات إلى مخيمات الشتات، تنبض هذه الأفلام بحقائق يومية، وصور عصية على التجاهل".
 
 
 
"حالة عشق" - غسان أبو ستة
 
"حالة عشق" هو توثيق حميمي لرحلة الدكتور الفلسطيني غسان أبو ستة، الذي حول مهنته كجراح إلى رسالة أخلاقية وإنسانية في وجه الصمت العالمي على ما يجري في غزة. الفيلم يتجاوز التوثيق الإخباري نحو السرد الوجودي العاطفي، إذ يقدم أبو ستة ليس كبطل خارق بل كإنسان محاصر بين الانتماء والموت، بين أداء الواجب والخوف على عائلته.
 
من خلال شهاداته المصورة، تعرض مخرجتا الفيلم كارول منصور ومنى خالدي مواقف مريرة؛ اضطراره لإجراء عمليات جراحية بلا تخدير، ودفن أطراف مبتورة لأطفال في صناديق صغيرة مخصصة لها، وشهادات لزملائه من الأطباء الذين وجدوا أبناءهم بين الجرحى أو الشهداء. يدمج الفيلم بين لقطات من المستشفيات وغرف العمليات، ومشاهد عائلية تظهر علاقته بزوجته ديما وأولاده.
 
 
بصوت يغص بالبكاء، يصف أبو ستة كيف تحولت غزة إلى مشهد يتجاوز حدود الإدراك البشري، ويتساءل: "شو معنى تقتل إنسان وبعدين تمشي عليه بالدبابة لتطحنه؟". "حالة عشق" يكرس دور السينما كأداة توثيقية للمحاسبة، وشهادة حية يمكن تقديمها للمحاكم الدولية في إطار قضايا الإبادة الجماعية.
 
 
 
الحياة حلوة
 
يأخذنا محمد الجبالي في "الحياة حلوة" في رحلة داخلية وخارجية، حيث يفتح لنا أبواب المنفى غير الطوعي في النرويج، ويكشف تعقيدات الهوية الفلسطينية في الشتات. يسلط الفيلم الضوء على ما يعنيه أن تكون فلسطينيا خارج فلسطين، حيث لا يعترف بجنسيتك، ولا يعترف بحقك في العودة، ولا يقبل طلبك للإقامة حتى وإن كنت مخرجا موهوبا ولديك أرشيف سينمائي.
 
يربط الفيلم بين الحرب والمنفى، بين الصراع على الورق في المكاتب الأوروبية، والدماء التي تسيل في غزة. بكاميرا خفيفة وحس شعري، يوثق الجبالي تفاصيل يومية تتراوح بين الكوميديا السوداء والحزن الصامت، من تقديم لجوء لم يعترف به، إلى محاولات دراسة السينما من جديد لإثبات الذات.
 
 
بين حضور مهرجانات سينمائية في أوروبا، ومكالمات صوتية مع والدته في غزة، ينسج الجبالي قصة شخصية تلامس جيلا كاملا من اللاجئين والفنانين الفلسطينيين المعلقين بين المنافي والحدود المغلقة.
 
 
 
حيثما تبكي أشجار الزيتون
 
يعد هذا الفيلم من أعمق الوثائقيات التي تناولت معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي للمخرجين زايا وموريتسيو بينازّو، حيث يوثق عبر شهادات مؤلمة لفلسطينيين من الضفة الغربية واقع القمع الممنهج، والاعتقال التعسفي، وهدم البيوت، والتهجير القسري. من بين الشهادات نسمع صوت الناشطة عهد التميمي، والطبيبة أشيرة درويش، والناجين من السجون.
 
 
يتميز الفيلم بعدم السعي إلى "الحياد الموضوعي"، بل يعتمد منظورا منحازا للضحايا، مؤكدا أن ما يجري ليس صراعا متكافئا، بل مشروع استعماري يهدف إلى إلغاء وجود شعب كامل. يوثق لحظات حميمية داخل البيوت، وعلى الحواجز العسكرية، وفي الورشات النفسية التي تعالج آثار الصدمات.
 
 
هو فيلم عن الألم، لكنه أيضا عن العدالة، حيث يختم برسالة قوية: "العدالة أولا، ثم السلام"، في تحول جذري عن الخطاب الغربي السائد.
 
 
 
فيلم النصيرات 274 مجزرة الرهائن
 
يتناول المخرج عبادة البغدادي هجوم الاحتلال الإسرائيلي على مخيم النصيرات في 8 حزيران (يونيو) 2024، الذي سوق على أنه عملية "تحرير رهائن" بينما خلف مجزرة بحق المدنيين. يوثق العمل، للمرة الأولى، شهادات ناجين كانوا في السوق الشعبي أثناء القصف، ويكشف عن لحظات الفوضى التي أدت إلى مقتل 276 فلسطينيا وإصابة مئات.
 
يعرض الفيلم تقاطع روايات السكان مع المشاهد الحية، في محاولة لفهم ما إذا كانت عملية الإنقاذ مبررة أو مجرد ذريعة للتدمير. يركز الفيلم على عنصر المفاجأة والدمار الجماعي، ويفكك الرواية الرسمية الإسرائيلية، مستعرضا وثائق وشهادات تناقض ما أعلن دوليا.
 
 
يقدم الفيلم دراسة بصرية وأخلاقية عن معنى "العدالة"، ويطرح تساؤلا حادا: هل تحرير أربعة رهائن يبرر إبادة حي سكني كامل؟ في هذه المعادلة الأخلاقية، يشير عبادة البغدادي إلى فجوة الوعي العالمي حيال الضحايا الفلسطينيين.
 
 
"مذبحة النصيرات" هو عمل وثائقي فاضح، شديد الضرورة في زمن تختلط فيه التبريرات العسكرية بالدعاية الإعلامية. إنه شهادة بصرية على جريمة ما تزال تداعياتها مستمرة.
 
 
 
مولود في غزة 
 
يقترب المخرج الأرجنتيني الإسباني هيرنان زين من الحرب على غزة العام 2014 من زاوية شديدة الخصوصية: عيون الأطفال. يقدم عشرة أطفال يروون تجاربهم من دون تدخل من الراوي، يصفون كيف تغيرت حياتهم، وكيف قتل آباؤهم، وكيف يعانون من كوابيس لا تتوقف.
 
من دون صوت سياسي مباشر، يحمل الفيلم الصور والمشاهد مسؤولية السرد. نرى الأطفال في المستشفيات، بين الأنقاض، وفي المدارس المدمرة. يظهر الفيلم كيف أن الحياة اليومية لهؤلاء الأطفال هي مواجهة يومية مع العنف والموت. ورغم قصر مدته، فإن الفيلم يترك أثرا نفسيا عميقا على المشاهد.
 
 
 
فيلم "السبع موجات"
 
"السبع موجات" هو آخر ما صور في غزة قبل بدء حرب أكتوبر 2023، ما يمنحه قيمة أرشيفية وجمالية نادرة. من خلال شخصيتين محوريتين -بيسان زغرة، السباحة الشابة، ومحمد بكر، المنقذ البحري- تستعرض أسماء بسيسو حياة الفلسطينيين في غزة من زاوية مختلفة تماما: علاقتهم بالبحر.
 
يأتي كمحاولة جمالية وإنسانية لكسر الصورة النمطية عن قطاع غزة، إذ تنقل الكاميرا واقع الحياة اليومية بعيدا عن عدسة الأخبار والحروب، لتضعنا أمام مشاهد حميمة عن تفاصيل الغزيين وعلاقتهم العميقة بالبحر. لا تستعرض بسيسو الحصار بشكل مباشر، بل تلتقط أثره في ثنايا الحياة، من خلال شخصياتها البسيطة والواقعية، التي تكشف عن تناقضات الواقع الفلسطيني بين الحلم والقيد، والقدرة المستمرة على التكيف رغم الألم.
 
 
يبنى الفيلم على ثنائية البحر/الحياة، فيقترح البحر كمساحة للحرية والشفاء، رغم كونه محاطا بالحدود والمخاطر. من خلال شخصية محمد بكر، يرصد العمل أزمات الشباب، البطالة والفساد، بينما تمثل بيسان زغرة طموح الجيل الجديد، وخرق السردية النمطية عن الفتاة الغزية، بما تحمله من شغف بالرياضة والحلم العالمي. تنجح بسيسو في تحويل الكاميرا من أداة مراقبة إلى عضو ضمن العائلة، فتصبح الصورة مرآة حقيقية لا مصطنعة، تنبض بالحياة والتفاصيل الصادقة.
 
 
أما على المستوى السياسي، فيقف الفيلم موقفا واضحا من دون خطاب مباشر، إذ يشكل بحد ذاته وثيقة مقاومة، كونه يوثق آخر لحظات الحياة اليومية في غزة قبل الكارثة. بسيسو ترفض التواطؤ الفني، فتبتعد عن المهرجانات ذات المعايير المزدوجة، وتختار عرض الفيلم في فضاءات عربية منسجمة مع رسالته.
 
 
 
السبع موجات ليس فقط توثيقا، بل فعل سينمائي يؤمن بقدرة الصورة على منح الكرامة والذاكرة لشعب محاصر، وعلى تذكير العالم أن غزة ليست مجرد عنوان في نشرة الأخبار، بل مكان حي يستحق الحياة والحلم.
 
 
وفي مواجهة واحد من أطول الصراعات في العالم، تثبت السينما أنها أداة فعالة في مقاومة الاضطهاد. هذه الأفلام توثق حقائق الاحتلال الإسرائيلي، وتكشف انتهاكات حقوق الإنسان، وتعطي صوتا لمن لا صوت لهم، وتعيد تعريف المشهد الإعلامي من موقع الضحية لا من موقع الراوي الخارجي.