عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    22-Jul-2025

حين يخجل الماء من مرآة إسرائيل*د. محمد العرب

 الدستور

في عالمٍ يفترض أن تحكمه القوانين، تخرج بعض العناصر لتفضح هشاشة كل قاعدة حين تصطدم بالحقيقة !
 
الماء، هذا السائل الأغلى، لم يكن يوماً مجرد مركّب هيدروجيني بسيط، بل فضيحة علمية تسير على سطح الحياة، يتمدد حين يتجمد، ويتحدى قوانين الكثافة والحرارة والانكماش ويسير في الاتجاه المعاكس كأنه يرفض الخضوع، لا لأنه أقوى من النار، بل لأنه أصدق منها.
 
كذلك هي بعض القضايا في هذا العالم البائس، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، في زمنٍ سائل، تتمدد إسرائيل كجليدٍ مُفبرك فوق أراضٍ لا تنتمي لها، وتُجمد الحقيقة كما يُجمد الماء على ? درجات تحت الصفر، لكنها لا تتكاثف، بل تتمدد فوق جثث الشهداء وتبدو كأنها تحكم المعادلة، لكنها في الحقيقة لا تفهم حتى الكتلة التي وُضعت فيها. هي طارئة كالبخار، مؤقتة كالفقاعات، لكنها صارت تُعامل كعنصر أصيل في مختبر الأمم.
 
القوى العالمية تعامل إسرائيل كما يتعامل العلماء مع الماء، يتظاهرون بفهمهم لسلوكها، لكنهم في الحقيقة عاجزون عن تفسير انحرافها عن كل نماذج العدالة والحرارة الأخلاقية، تزداد جرائمها كلما ارتفعت درجة حرارة الدم العربي، وتتمدد احتلالاً وقمعاً كلما تجمد الضمير الدولي.
 
الفيزياء تقول إن الأشياء تسلك سلوكاً محدداً عند الضغط والحرارة، إلا إسرائيل؛ فإنها تسلك سلوكاً صهيونياً خبيثاً : تنفجر حين تُدلل، وتبرد حين تُحاسب، لكنها لا تنكسر  لأن أحداً لم يُلقِ بها في قلب الحقيقة.
 
العالم يحاول احتواء الماء داخل قوانين رياضية، كما يحاول احتواء إسرائيل داخل معادلات الدبلوماسية. لكن كل محاولاتهم تفشل، لأنهم لا يريدون الاعتراف بأن هذا (الماء) ملوّث بنترات الكراهية، وأن هذا (الجليد) لا يبرد إلا حين يُغطّى بدماء الأبرياء.
 
في الحرب الأخيرة، لم تذُب إسرائيل، بل تمددت فوق غزّة كما يتمدد الماء في أنابيب المجاري المكسورة. كل قذيفة أطلقتها كانت قطرة حارقة من ماءٍ لا يروى، بل يُغرق في الوحل. الأطفال الذين ماتوا لم يكونوا في ساحة حرب، بل في مختبر أخلاقي فشل فيه العالم بأسره في إجراء تجربة عادلة. تساءلنا: ما الذي يجعل الماء يرفض القوانين؟ فتبيّن أن من يُجرب علينا هو من اخترق القواعد منذ البداية.
 
إسرائيل، مثل الماء، تُظهر طقوساً فيزيائية غريبة: فهي تتمدد كلما ازداد الانكماش العربي، وتتجمد في لحظات كان يُفترض أن تذوب فيها. في حالات كثيرة، تتحول من حالة (احتلال) إلى حالة (دولة) ثم إلى (ضحية)، وفق مراحل تفاعلها مع الأفران الإعلامية الغربية. تماماً كما يُغلى الماء ليبدو طاهراً، تُغسل جرائمها بغليان الأخبار المزيفة في غرف الأخبار.
 
لكن المفارقة الكبرى، أن الماء لا يتغير جوهرياً. لا يزال H2O. أما إسرائيل، فهي تغيرت حتى في تركيبها الجيني: من مشروع تهويد، إلى استعمار ناعم، إلى آلة تطهير عرقي. إنها ليست مادة، بل تجربة كيميائية صنعتها قوى استعمارية من بقايا الحروب القديمة وحقن الأديان بالسُمية.
 
من يحاول فهمها باستخدام أدوات القانون الدولي، كمن يحاول غلي الماء في درجة الصفر. ومن يحاول تهدئتها بالدبلوماسية، كمن يضع قطعة ثلج على بركان. إن وجودها ذاته تحدٍ لكل ما نعرفه عن المنطق، لأنها نتاج كذبة مُجمّدة تم الحفاظ عليها في ثلاجة المصالح الدولية.
 
لم يعد سرها غامضاً، بل فاضحاً، لكنها لا تزال تُعامل كاستثناء من قواعد المحاسبة. وتُقدّم للعالم كضرورة أمنية. لكنها في الحقيقة، سائل سام يُراد له أن يتسرب إلى شرايين الشرق الأوسط ليغيّر تركيبته الجيولوجية والروحية.
 
الماء، رغم تمرّده، ضروري للحياة. أما إسرائيل، فهي النموذج الوحيد الذي لا يُشبه الماء في نفعه، بل في خطره حين يتسلل في الشقوق ويهدم من الداخل. ماء بلا حياة، احتلال بلا ملامح، كيان صُنع ليخترق لا ليبني، ليغلي لا ليُشرب، ليُستهلك لا ليُروى.
 
إن أكثر ما يُقلق في الماء هو أنه يبدد شكوكك بجماله، لكنه في لحظة الغليان يكشف عن كل ما يخفيه. كذلك هي إسرائيل، تُغلف وجودها بكلمات براقة كالديمقراطية والدفاع عن النفس، لكنها حين تُختبر، تكشف عن مزيج من النار والرصاص والدم.
 
وفي النهاية، إذا كان العلماء لم يفهموا لماذا يتمدد الماء عند التجمد، فالعرب فهموا تماماً لماذا تتمدد إسرائيل عند الصمت. وإذا كان الماء يخرق قوانين الفيزياء، فإن إسرائيل تخرق قوانين الإنسان، وتفعل ذلك باسم العلم، والرب، والأمن.
 
لكن لا شيء يبقى خارج القاعدة إلى الأبد  حتى الماء، حين يُحبس في ضغط كافٍ، ينفجر. أما إسرائيل، فحين تصل لحظة غليان العدالة الحقيقية، لن تجد في هذا العالم أنبوباً يقيها من الانفجار القادم.