الدستور
الحرب هي السلام، والحرية هي العبودية، والجهل هو القوة- جورج أورويل، رواية 1984.
ألقت ساحرةٌ تعويذةً في بئرٍ وسط مملكة، فصار كل من شرب من مائها يُصاب بالجنون. شرب الجميع، باستثناء الملك ووزيره. ولأنهما الوحيدان اللذان بقيا على عقل، رآهما الناس مجنونَين، فثاروا عليهما. لم يجد الملك ووزيره بدًّا من شرب الماء المسحور، وما إن فعلا حتى ابتهج الناس، واحتفلوا بعودتهما إلى «الرشد».
هكذا، تحوّل العالم بأسره إلى نسخةٍ من تلك القرية المجنونة.
تؤدي السيدة فرانشيسكا ألبانيز مهامها كمقرّرة خاصة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في فلسطين، فتكتب وتُصرّح أن ما يجري في غزة هو إبادة جماعية، وتطالب بمحاكمة المسؤولين عنها أمام محكمة الجنايات الدولية. ثم تُعد تقريرًا يفضح الشركات المتورطة في دعم هذه الإبادة. فتردّ أقوى دولة في العالم، على لسان وزير خارجيتها ماركو روبيو، بشن هجوم عنيف عليها، وتفرض عليها العقوبات!
أما المملكة المتحدة، فتصنّف منظمة «فلسطين آكشن» السلمية ضمن قوائم «الإرهاب»، فقط لأنها تعارض محرقة غزة.
وعلى مائدة عشاء، يرشّح مجرم الحرب والمطلوب للعدالة نتن ياهو، رئيسَ أكبر دولة مصدّرة للسلاح في العالم ذاك الذي دهس القانون الدولي تحت جناح طائراته وهي تقصف المنشآت النووية الإيرانية لجائزة نوبل للسلام!
وفي مشهد آخر من مشاهد العبث، يواصل الكيان المجرم منع دخول الصحفيين الأجانب إلى غزة، ويعتقل صحفيًا إسرائيليًا لمجرد أنه كشف تزوير قادة جيش الاحتلال لرواية حرق أطفال السابع من أكتوبر، وهي الرواية نفسها التي رددها الرئيس الأميركي السابق جو بايدن مرتين.
أما إدارة ترامب، فتتبرأ من دم عميل الموساد جيفري إبستين، المتهم بتجارة القاصرات، وتزعم أنه انتحر، وتنفي وجود قائمة بأسماء شركائه من كبار الشخصيات، متجاهلةً كل التقارير التي تؤكد عكس ذلك.
وتقوم مؤسسة تُدعى «غزة الإنسانية» بقتل أكثر من ألف غزّي ممن قصدوا مراكزها طلبًا للطعام، ويستشهد أكثر من مئةٍ منهم جوعًا، جلّهم من الأطفال. وفي ذروة هذه المأساة، يخرج الرئيس ترامب ليعلن أن الولايات المتحدة قدّمت أكثر من ستين مليون دولار للمؤسسة، دون أن تتلقى «شكرًا» واحدًا!
ويُعلن وزير الحرب الصهيوني عن إنشاء مدينة أطلق عليها اسم «إنسانية» في جنوب القطاع، ليُزج فيها أكثر من مليون ونصف من سكان غزة، تمهيدًا لتهجيرهم القسري.
ويفشل نتن ياهو المفاوضات الأخيرة الرامية إلى وقف الإبادة، فينحاز الوسيط الأميركي بوقاحة إلى جانب الاحتلال، متهمًا حماس بأنها من أفشل المحادثات.
وفي الوقت نفسه، تُصرّ الإدارة الأميركية على منح الكيان «حق الدفاع عن النفس»، رغم ارتكابه إبادة جماعية دامت لعامين، حصدت مئات الآلاف من الأرواح ودمّرت القطاع بأكمله. وتعتقل كل من يطالب بوقف المجزرة، بتهمة «معاداة السامية».
يسافر نتن ياهو، مجرم الحرب، إلى أقاصي الأرض، ويُستقبل استقبال الأبطال، بينما يُحاصر شعبٌ بأكمله في ظروف لا إنسانية لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلًا. ويُهدي نتن ياهو رئيسَ أقوى دولة «بيجرًا» من ذهب، رمزًا لما يسمى «العمل العظيم» الذي أنجزه، بعدما فجّر بيجرات استهدفت حزب الله، وكان معظم ضحاياها من المدنيين.
لقد غدا هذا العالم أقرب إلى نسخة معاصرة من حكم قراقوش، والي القاهرة في العصر الأيوبي، الذي تحوّل إلى رمز للظلم والقرارات العجيبة، حتى ألّف ابن ممّاتي كتابًا ساخرًا عنه بعنوان «الفاشوش في حكم قراقوش».
وربما كان قراقوش بريئًا، وشوّه خصومه سيرته، لكنني أجزم أننا نعيش اليوم زمن قراقوش الحقيقي حين تُقلَب الحقائق، ويُدهس المنطق، ويُرشَّح مجرمٌ آخر لنيل جائزة السلام.
حين يُبرّأ تاجر قاصرات تورّط معه أصحاب النفوذ، وتُبرَّر إبادة جماعية بأنها «دفاع عن النفس»...
حين يتحوّل الضحية إلى جلاد، ويُغتال المفاوض، وتُمزّق المواثيق، وتُقصف الدول في ذروة المفاوضات...
فاعلم يقينًا أنك تعيش في عالم قراقوش.