عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    25-Dec-2025

نهاية الاستثناء الإسرائيلي: نموذج جديد للسياسة الأميركية (1 - 2)

 الغد

أندرو ب. ميلر* - (إندبندت عربية) 2025/12/11
حولت العلاقة الاستثنائية بين الولايات المتحدة وإسرائيل الدعم الأميركي غير المشروط إلى مصدر أخطار إستراتيجية وأخلاقية، حيث أطلقت يد الحكومات الإسرائيلية في الاستيطان والحروب في غزة والمنطقة، ففاقمت معاناة الفلسطينيين، وعمقت عزلة إسرائيل، وأضعفت صورة واشنطن عالمياً. ويقتضي تصحيح المسار ربط المساعدات والقوة الدبلوماسية الأميركية بقواعد القانونين الأميركي والدولي، وفرض حدود واضحة على السياسات الإسرائيلية، ومنع التدخل الحزبي المتبادل، بما يحمي أمن إسرائيل وحقوق الفلسطينيين ومصالح الولايات المتحدة على المدى البعيد.
***
ظلت الروابط بين الولايات المتحدة وإسرائيل وثيقة بصورة استثنائية على مدى العقود الثلاثة الماضية. وبقيت واشنطن على وفاق تام مع تل أبيب خلال الأيام الحافلة من عملية السلام خلال تسعينيات القرن الماضي مع منظمة التحرير الفلسطينية، وخلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي بدأت في العام 2000 واستمرت خمسة أعوام، ثم خلال العقدين التاليين اللذين شهدا سلسلة من الصراعات في غزة ولبنان. واستمرت هذه العلاقة خلال هجوم "حماس" الإرهابي على إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 والحرب في غزة التي أعقبته، حيث قدمت إدارتان رئاسيتان أميركيتان دعماً دبلوماسياً وعسكرياً غير مشروط تقريباً لتل أبيب.
لكن حرب غزة أوضحت أيضاً أن الحفاظ على هذا النوع من العلاقات الثنائية يأتي بكُلف باهظة. مع بعض الاستثناءات القليلة، وأبرزها وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ أوائل تشرين الأول (أكتوبر) 2025، عجزت واشنطن، على الرغم من محاولاتها المتكررة، عن التأثير في الطريقة التي تخوض بها إسرائيل الحرب. وليس هذا الفشل استثناء، بل هو متجذر في طبيعة العلاقة الأميركية - الإسرائيلية. على الرغم من أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة قد تربطهما "علاقة خاصة"، فإن ما يجمع الولايات المتحدة وإسرائيل "علاقة استثنائية"، تحظى فيها إسرائيل بمعاملة لا يحظى بها أي حليف أو شريك آخر. عندما تشتري الدول الأخرى أسلحة أميركية، تخضع المبيعات لمجموعة كبيرة من القوانين الأميركية. أما إسرائيل فلم تُجبر قط على الالتزام بها فعلياً. وفي الوقت الذي يمتنع فيه الشركاء الآخرون عن إظهار تفضيلاتهم العلنية لحزب سياسي أميركي، يفعل قادة إسرائيل ذلك من دون أن يواجهوا أي عواقب. كما أن واشنطن لا تدافع عادة عن سياسات أي دولة أخرى تتعارض مع سياساتها هي، ولا تمنع حتى الانتقادات الخفيفة الموجهة إلى تلك الدول في المنظمات الدولية. ولكن عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، فإن واشنطن تفعل هذين الأمرين بصورة روتينية وكأنه أمر طبيعي.
لقد أعاقت هذه الاستثنائية مصالح كلا البلدين، فضلاً عن إلحاقها أذى هائلاً بالفلسطينيين. وبدلاً من المساعدة في ضمان بقاء إسرائيل، وهو الهدف المعلن لهذه السياسة، سمح الدعم الأميركي غير المشروط بإطلاق أسوأ نزعات القادة الإسرائيليين. وكانت النتيجة هي الزيادة المستمرة بلا هوادة في بناء وتوسيع المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية، وعنف المستوطنين في الضفة الغربية، وسقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين في غزة، إضافة إلى حدوث مجاعة في بعض المناطق. وعلاوة على ذلك، سهل الدعم الأميركي عمليات عسكرية إسرائيلية متهورة في أنحاء الشرق الأوسط، وزاد الأخطار الوجودية التي تواجهها إسرائيل نفسها. وفي الولايات المتحدة أدت حرب غزة إلى تآكل كبير في الدعم الشعبي لإسرائيل، مع وصول المواقف غير المؤيدة لها إلى مستويات قياسية في مختلف الأطياف السياسية.
لا يمكن أن تستمر العلاقة في شكلها الحالي إلى ما لا نهاية. وهي تتطلب نموذجاً جديداً أكثر اتساقاً مع طريقة تعامل واشنطن مع الدول الأخرى، بما في ذلك أقرب حلفائها المرتبطين بها بموجب معاهدات. وينبغي أن يتضمن هذا النموذج الجديد توقعات وحدوداً واضحة، ومساءلة في شأن الامتثال للقانونين الأميركي والدولي، وشروطاً مفروضة على الدعم الأميركي عندما تتعارض السياسات الإسرائيلية مع المصالح الأميركية، والامتناع عن التدخل في السياسة الداخلية. باختصار، علاقة ثنائية أكثر طبيعية بكثير.
بالنسبة للولايات المتحدة، يشكل هذا التعديل المتأخر ضرورة استراتيجية وسياسية وأخلاقية، بدءاً بمنع إسرائيل من ضم الضفة الغربية ووصولاً إلى صياغة استراتيجية مشتركة للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني. وستُسفر علاقة أميركية - إسرائيلية طبيعية عن نتائج أفضل من علاقة استثنائية غالباً ما تدفع نحو سلوك إسرائيلي خطر وتُضعف نفوذ واشنطن العالمي. وإذا تأخرت الولايات المتحدة في هذا التعديل فقد تكون النتيجة إلحاق الضرر بمكانتها الدولية، وعزلة شبه كاملة تواجهها إسرائيل من الشعب الأميركي وبقية العالم، وانهيار المجتمع الفلسطيني في غزة، وفي نهاية المطاف في الضفة الغربية. وسوف يصب تغيير المسار قبل فوات الأوان في مصلحة الجميع: الأميركيين والإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.
لا هوامش للخلاف
على الرغم مما يربط واشنطن وتل أبيب من صلة فريدة منذ تأسيس إسرائيل، لم تتخذ علاقتهما دائماً شكلها الاستثنائي الحالي. قبل عهد إدارة الرئيس بيل كلينتون لم يكن الدعم الأميركي يعني شيكاً على بياض. وفي الواقع لم يتردد الرؤساء الأميركيون في معارضة حكومة إسرائيل علناً أو فرض عواقب لدفعها إلى تغيير سلوكها. وغالباً ما دعمت الإدارات الأميركية -أو امتنعت عن التصويت على- قرارات مجلس الأمن الدولي التي تنتقد الإجراءات الإسرائيلية، وخصوصاً بناء المستوطنات، حتى أنه خلال حرب السويس في العام 1956 وحرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973 والحروب الإسرائيلية في لبنان خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، والانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، هدد الرؤساء الأميركيون بفرض عقوبات على إسرائيل أو قطع شحنات الأسلحة عنها. ولكن بدا بعد ذلك وكأن نهاية الحرب الباردة والانتصار الأميركي الحاسم في حرب الخليج خلقا ظروفاً مواتية للتوصل إلى تسوية شاملة في الشرق الأوسط. وفي سعيه إلى تحقيق هذا الهدف، قدم كلينتون وفريقه دعماً سياسياً ومادياً غير مشروط تقريباً لإسرائيل، انطلاقاً من اعتقادهم بأن إسرائيل القوية المدعومة بصورة ثابتة وغير محدودة من الولايات المتحدة، ستكون أكثر استعداداً للمخاطرة من أجل السلام. وقد تجنبوا إبراز الخلافات بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وحتى البيانات الأميركية الروتينية التي تعترض على بناء المستوطنات الإسرائيلية جرى تخفيفها، وسقطت كلمات مثل "الاحتلال" من القاموس الأميركي الرسمي. كما أنهم عرضوا أحياناً زيادة الدعم العسكري كحافز للتنازلات الإسرائيلية، لكنهم لم يستخدموه كأداة ضغط وتجنبوا الإجراءات القسرية، بغض النظر عن سلوك إسرائيل.
استند هذا النهج الأميركي إلى أربعة افتراضات أساسية: أولاً أن المصالح الأميركية والإسرائيلية متطابقة إلى حد كبير -إن لم تكن متطابقة تماماً- بما في ذلك الهدف المشترك المتمثل في التوصل إلى سلام عبر المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين وجيرانها الآخرين؛ وثانياً أن إسرائيل تفهم بصورة أفضل مصالحها والتهديدات التي تواجهها من دول معادية كانت تضاهيها قوة؛ وثالثاً أنه من الأفضل حل أي خلافات بين الحليفين سراً، لأن ظهور تباعد علني بينهما يشجع أعداء إسرائيل؛ وأخيراً، عندما كانت الأمور تصل إلى اختبار حقيقي، كانت إسرائيل تراعي المخاوف الأميركية الكبيرة حفاظاً على علاقة تعتبرها أساسية لبقائها على المدى الطويل. 
كانت العلاقة التي نشأت من هذا المنطلق استثنائية حقاً في توقعاتها ومعاييرها وطريقة عملها. وقد استمرت من دون تعديل جوهري، مدفوعة جزئياً باللوبي السياسي القوي المؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. وما تزال واشنطن تُبدي قدراً كبيراً من الامتثال -ليس لتقديرات القادة الإسرائيليين وحسب، بل أيضاً لحاجاتهم السياسية الداخلية. وهي تقدم من دون شروط كميات هائلة من المساعدات العسكرية. وقد تعهدت مذكرة التفاهم للعام 2016 بتقديم 3.8 مليار دولار سنوياً -أي ما يزيد على 10 ملايين دولار يومياً من أموال دافعي الضرائب الأميركيين. وغالباً ما يزيد الكونغرس مبالغ إضافية بانتظام. ومن المتوقع من الولايات المتحدة ألا تكتفي بالامتناع عن انتقاد إسرائيل علناً، بل أيضاً أن تدعم موقفها في المؤسسات الدولية، خصوصاً من خلال استخدام حق النقض ضد قرارات مجلس الأمن التي تعترض عليها إسرائيل، سواء انسجمت هذه القرارات مع السياسة الأميركية أو لا. ونادراً ما تخضع إسرائيل، وربما لا تخضع على الإطلاق، لقوانين وسياسات أميركية معينة، ولا سيما القيود القانونية المتعلقة بانتهاكات حقوق الإنسان التي تنطبق على جميع الجهات المتلقية للمساعدات الأميركية.
أدى الدعم غير المشروط، بطريقة لا مفر منها، إلى صعود أخطار أخلاقية على كلا البلدين. ليس لدى إسرائيل أي سبب يدفعها إلى مراعاة المخاوف والمصالح الأميركية لأن تجاهلها لا يكلفها شيئاً. وبدلاً من ذلك تتجرأ إسرائيل على تبني مواقف متطرفة غالباً ما تتعارض مع المصالح الأميركية، وأحياناً مع المصالح الإسرائيلية أيضاً. وبطبيعة الحال، وجهت إسرائيل ضربات قاسية لأعداء تتشاركهم مع الولايات المتحدة. كما أن الضمان العملي للدعم الأميركي قد يساعد في ردع الخصوم عن مهاجمتها. ولكن، بما أن قوة إسرائيل تفوق بكثير قوة جميع خصومها، فإن هذا الدعم يخلق حافزاً معكوساً يدفعها إلى اتخاذ خطوات متهورة لا ضرورة لها، وهي على ثقة بأن الدعم الأميركي سيستمر بغض النظر عن نتائج مغامراتها. كما أن الدعم الأميركي غير المشروط يجعل الولايات المتحدة متورطة في أفعال إسرائيل مما قد يعرض القوات الأميركية أحياناً لهجوم انتقامي مباشر. وفي المقابل، تتذمر إسرائيل من التدقيق المتزايد الذي تتعرض له من بعض فئات الرأي العام الأميركي بسبب المساعدات التي تحصل عليها.
من المؤكد أن القادة الإسرائيليين غير معصومين من الخطأ في أحكامهم، بما في ذلك ما يتصل بتطورات محيطهم الإقليمي. وهذا ينطبق على القادة في أي مكان. لكن تاريخ إسرائيل جعل بعض صناع سياساتها ينشغلون بصورة مفرطة بالتهديدات الآنية ويتجاهلون الديناميكيات الاستراتيجية أو يسيئون فهمها. ومن المفارقات المأساوية أن أكبر إخفاقين استخباريين في تاريخ إسرائيل، وهما الفشل في منع الهجوم المفاجئ الذي أشعل فتيل الحرب العربية الإسرائيلية في العام 1973، والفشل الآخر بعد 50 عاماً في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، لم يكونا ناجمين عن نقص في المعلومات الاستخبارية التكتيكية، بل عن تقييمات استراتيجية متفائلة أكثر من اللازم، دفعت القادة الإسرائيليين إلى تجاهل المؤشرات التحذيرية.
يجب على الولايات المتحدة ألا تهمل تقديرات إسرائيل وقراءاتها للمشهد، لكنّ عليها أيضاً ألا تستبدل بها أحكامها الخاصة على نحو أعمى. عندما يكون لدى كل من إسرائيل والولايات المتحدة قادة حسنو النية وملتزمون بالسلام، فيمكن التخفيف من عيوب العلاقة بينهما. وقد أدرك إسحاق رابين الذي شغل منصب رئيس وزراء إسرائيل خلال ولايته الثانية من العام 1992 وحتى اغتياله في العام 1995 أن التعامل بجفاء مع واشنطن قد لا يلحق ضرراً فورياً بالشراكة، لكنه كان يخشى الأذى بعيد المدى. وأدرك أن مخاوف الولايات المتحدة صادقة ومتجذرة في هدف مشترك هو تحقيق السلام، على الرغم من الاختلافات حول ماهية هذا السلام. وربما كانت العلاقة الاستثنائية مبررة في تلك الظروف الاستثنائية.
وعلى الرغم من أن رابين لم يكن مثالياً، حيث أشرف على سبيل المثال على نمو استيطاني واسع النطاق، فإنه كان شريكاً متجاوباً مع الولايات المتحدة. ومع أنه لم يعترف علناً بهدف إقامة دولة فلسطينية، كان توقيعه على "اتفاقات أوسلو" مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في العام 1993 خطوة في هذا الاتجاه، وقد حظي بدعم أكثر من 60 في المائة من الجمهور الإسرائيلي.
أما رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فيتصرف على النقيض من ذلك. إنه ينظر إلى العلاقة الاستثنائية على أنها شيء يمكن أن يستغله وليس كشبكة أمان تستخدم في الظروف القصوى. وهو يتعامل مع وعد "عدم إظهار أي خلاف في العلن" بين الولايات المتحدة وإسرائيل على أنه التزام أحادي الاتجاه، ويستخدم الخلافات العلنية لمصلحته كما حدث عندما انتقد إدارة بايدن لأنها حجبت بعض شحنات الأسلحة وعند وقوفه أمام الكونغرس في العام 2015 لمهاجمة اتفاق نووي محتمل مع إيران. وبالقدر نفسه من الأهمية، كانت معارضته حل الدولتين مدعومة إلى حد كبير من جمهور إسرائيلي انحرف بقوة نحو اليمين خلال العقود الأخيرة. وأظهر استطلاع أجراه "مركز بيو للبحوث" في حزيران (يونيو) الماضي أن 21 في المائة فقط من الإسرائيليين يعتقدون أن إسرائيل يمكن أن تتعايش بسلام مع دولة فلسطينية. كما أن إشراك نتنياهو في حكومته حزبين من اليمين المتطرف يقودهما متطرفان يدعوان صراحة إلى العنصرية والعنف، هما وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، يظهر هذا التحول في اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي. باختصار، تجد الولايات المتحدة نفسها اليوم وهي تتعامل مع حكومة إسرائيلية لا تتبنى القيم الديمقراطية، ولا تبدي أي اهتمام بالتوصل إلى حل عادل للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وغالباً ما لا تبادل الولايات المتحدة التزامها بالحفاظ على علاقة ثنائية صحية.
معاملة استثنائية
أبرزت تداعيات هجوم "حماس" في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 العيوب الجوهرية في هذه العلاقة الاستثنائية. وكما كان متوقعاً، واجه الرئيس الأميركي جو بايدن وفريقه صعوبة في التأثير في سلوك حكومة نتنياهو خلال حرب غزة وأفعالها في أماكن أخرى من المنطقة. ولم تسعَ الولايات المتحدة إلى التوصل إلى تفاهم مع إسرائيل، لا رسمياً ولا بصورة غير رسمية، لتحديد نوع المساعدات المقدمة والشروط المرافقة لها والأهداف العسكرية المرتبطة بها. وقد أظهر دعم الإدارة للرد العسكري الإسرائيلي تضامناً مناسباً مع شريك مفجوع ومحاصر، لكن الأمر بدا لنتنياهو في غياب هذا الوضوح وكأنه شيك على بياض.
حاولات اتصالات الولايات المتحدة بالمسؤولين الإسرائيليين في بداية الحرب تكريس نمط من الضغوط المدروسة بعناية، لكنه انتهى بالتزام تام برغبات إسرائيل. منذ العمليات الإسرائيلية الأولى في غزة، كان من الواضح أن الجيش الإسرائيلي لم يركز بصورة كافية على تقليل الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين. وقد أعربت إدارة بايدن مراراً وتكراراً وبحزم -وإنما سراً- عن مخاوفها بشأن القصف الذي مارسته إسرائيل خلال الأسابيع الأولى من الحرب. ومع ذلك، تضاءل أي تأثير كان من الممكن أن تحدثه هذه المحادثات في الإجراءات الإسرائيلية بسبب التعليقات العلنية للمسؤولين الأميركيين، والتي أعربت عن أسفها لسقوط ضحايا مدنيين، لكنها تجنبت إدانة إسرائيل أو إلقاء اللوم عليها.
كانت الإدارة الأميركية مترددة في حجب شحنات الأسلحة خلال هذه الفترة الأولية، وفسرت دول أخرى استخدام الولايات المتحدة حق النقض ضد كثير من قرارات مجلس الأمن الدولي الداعية إلى وقف إطلاق النار، لأسباب منها إغفال دور "حماس" في الصراع، على أنه تساهل مع التكتيكات الإسرائيلية. وحتى مع تصاعد الانتقادات العلنية داخل الولايات المتحدة نفسها، بدا أن نتنياهو قد استنتج أنه يستطيع تجاهل أي استياء داخل الإدارة الأميركية، مما يعطي الأولوية لحرية إسرائيل في التصرف على حساب الحد من الضرر الذي يلحق بالمدنيين.
في الواقع، كان وقف إطلاق النار في تشرين الثاني (نوفمبر) 2023 الذي أفضى إلى تحرير 105 رهائن إسرائيليين في غزة إنجازاً كبيراً. لكن أكثر من عام مر من دون التوصل إلى هدنة أخرى. وخلال ذلك الوقت، وجه المسؤولون الأميركيون رسائل متزايدة الصراحة والصرامة إلى القادة الإسرائيليين بشأن التكتيكات الإسرائيلية. وعلى الرغم من تأكيدهم أن إسرائيل تحتاج إلى بذل "مزيد من الجهد" لحماية المدنيين، فإنهم نادراً ما قدموا أي مؤشر على أن الدعم الأميركي قد يكون على المحك، ولم يستخدموا قط المساعدات العسكرية كوسيلة ضغط لمحاولة تغيير سلوك إسرائيل. كما أن تطبيق ما يسمى بـ"قوانين ليهي" التي تحظر تقديم المساعدة الأميركية للوحدات العسكرية المتورطة بصورة موثوقة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان جرى تعليقه فعلياً في حالة إسرائيل، على الرغم من أن تلك القوانين لا تسمح بمثل هذه الاستثناءات. ولم يوقف بايدن تسليم بعض الأسلحة إلا في أيار (مايو) 2024 رداً على بدء إسرائيل حملتها ضد قوات "حماس" في مدينة رفح، على الرغم من مناشدات الولايات المتحدة بتأجيل العملية إلى أن يجري إجلاء السكان المدنيين بأمان. وقد انتهى الأمر بالجيش الإسرائيلي إلى تعديل خطته الخاصة برفح، لكن ضغط الإدارة كان في الإطار الأكبر للحرب ضئيلاً للغاية ومتأخراً للغاية.
ظهرت ديناميكية أكثر نجاحاً إلى حد ما في ما يتعلق بالمساعدات الإنسانية. في البداية فرضت إسرائيل حصاراً كاملاً على غزة خلافاً لرغبات الولايات المتحدة. وعلى الرغم من نجاح إدارة بايدن في إقناع حكومة نتنياهو بالتراجع عن هذا القرار، حدّت القيود الإسرائيلية من عدد شاحنات المساعدات اليومية التي تدخل غزة إلى جزء بسيط مما هو مطلوب لتلبية الحاجات الأساسية. ومع ذلك كان من المحتمل تماماً ألا تدخل أي مساعدات إلى القطاع لولا الجهود الأميركية الدؤوبة. وفي هذه القضية بالذات استخدمت إدارة بايدن نفوذها بين حين وآخر. وقد هددت الإدارة مرتين في العام 2024، خلال مكالمة هاتفية في نيسان (أبريل) بين بايدن ونتنياهو، وفي رسالة في أيلول (سبتمبر) (أيلول) من وزيري الخارجية والدفاع الأميركيين إلى نظيريهما الإسرائيليين، بخفض الدعم العسكري الأميركي إذا لم تتخذ إسرائيل خطوات محددة لتحسين الإغاثة الإنسانية. وفي المرتين امتثلت إسرائيل إلى حد كبير -وإن كان ذلك مؤقتاً.
كان الضغط الأميركي فعالاً لكنه لم يكن مستداماً. فقد اختارت الإدارة عدم استخدام أدوات أخرى متاحة لها مثل تفعيل المادة "620-آي" من قانون المساعدات الخارجية التي تحظر تقديم الدعم العسكري لأي دولة تمنع وصول المساعدات الإنسانية الأميركية. وبموجب هذا البند كان بإمكان المسؤولين الأميركيين إما أن يعلنوا انتهاك إسرائيل للقانون ثم رفع تعليق المساعدات، وهو ما يعني فعلياً توجيه توبيخ علني لها؛ أو أن يسمحوا بتطبيق الحظر ووقف تزويد إسرائيل بالأسلحة. وكان من الممكن أن يسهم كلا الإجراءين في حث إسرائيل على السماح بدخول مزيد من المساعدات إلى غزة. وعلى نحو مماثل، جزئياً لتجنب تفعيل "620-آي"، أصدرت إدارة بايدن مذكرة رئاسية تتعلق بالأمن القومي في شباط (فبراير) 2024 وضعت معايير إنسانية وحقوقية أكثر صرامة للدول التي تتلقى مساعدات عسكرية أميركية. ووجد تقريرها بشأن امتثال إسرائيل، الصادر في أيار (مايو) من ذلك العام، أن تأكيدات إسرائيل بأنها تسهل دخول المساعدات إلى غزة وتلتزم بالقانون الدولي "موثوقة وذات صدقية" -وهو استنتاج لم يقنع سوى قلة من المراقبين المتابعين للصراع عن كثب.
 
 
 
 
 
Image4_12202524214021950357439.jpg
 
سمح الدعم الأميركي غير المشروط بإطلاق أسوأ نزعات القادة الإسرائيليين - (المصدر)
 
 
في الحقيقة، حققت إدارة بايدن نجاحاً أكبر في منع توسع حرب غزة. وقد دخلت إيران ولبنان وسورية واليمن جميعاً بطريقة أو بأخرى في الصراع، لكن العنف لم يتفاقم إلى حرب متعددة الجبهات وطويلة الأمد، وتمكنت الإدارة من حشد تحالف دفاعي متعدد الجنسيات أحبط إلى حد كبير الهجمات الإيرانية على إسرائيل في نيسان (أبريل) وتشرين الأول (أكتوبر) 2024، وهو ما حال دون مزيد من التصعيد. ومن خلال توضيحها لإسرائيل في أعقاب ذلك أن الولايات المتحدة لن تنضم إلى العمليات الهجومية، أبقت الإدارة رد إسرائيل محدوداً ووفرت مزيداً من الوقت للدبلوماسية. لكن بايدن ظل يواجه صعوبة في الحد من العمليات الإسرائيلية التي كان من الممكن أن تتفاقم إلى صراع إقليمي. وكانت الهجمات الإسرائيلية المشكوك في جدواها في دمشق هي التي سببت (ولكن لم تبرر) الجولة الأولى من الضربات الإيرانية على إسرائيل. وفي معظم الأحيان تمتعت إسرائيل بحرية التصرف، وربما يكون توفير الولايات المتحدة حماية عسكرية فعالة ضد الهجوم الإيراني قد منح إسرائيل ثقة أكبر لشن عمليات أكثر خطورة خلال الأشهر اللاحقة.
 
 
* أندرو ب. ميلر: زميل أول في شؤون الأمن القومي والسياسة الدولية في "مركز التقدم الأميركي"، وقد شغل منصب نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإسرائيلية الفلسطينية خلال إدارة بايدن، وكان مديراً للقضايا العسكرية الخاصة بمصر وإسرائيل في مجلس الأمن القومي أثناء إدارة أوباما.
*مترجم عن "فورين أفيرز"، عدد كانون الثاني (يناير)/ شباط (فبراير) 2026 - نشر في الخامس من كانون الأول (ديسمبر) 2025.