عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    15-Jul-2025

ساعدوا نبيه برّي* غازي العريضي
المدن -
كلّّما شرّفنا مسؤول أجنبي، عربي أو غربي، خصوصاً أميركي، غرق البلد في سيل من التحليلات والتعليقات والتصريحات والتوقعات والمعلومات "المؤكدة"، على حد قول ناقليها بعد دقائق من انتهاء لقاءاته مع المسؤولين اللبنانيين! غريبة عجيبة هذه الحالة. تحليلات تمنيات هنا. وتحذيرات من انحرافات وخروج على القانون والدستور في المفاوضات هناك، وفوضى في كل مكان. إذ لا يكلف أحد "المحللين" نفسه عناء البحث عن الدقة في المعلومات .
آخر فصول هذه الاستعراضات زيارة الموفد الأميركي توم بارّاك الأسبوع الماضي. خرج بعد لقائه برئيس الجمهورية وأطلق تصريحاً هادئاً متزناً. فإذا بقوى سياسية تعتبر أن طريقة التفاوض غير قانونية وغير دستورية، وأن كل الأمور يجب أن تمرّ في مجلس الوزراء. نظرياً بعض هذا الكلام صحيح. ففي منطق الدولة وحسن إدارة مؤسساتها ينحصر كل شيئ بالمسؤولين المعنيين ويؤخذ القرار في الحكومة. لكن السير بذلك واقعياً يقضي أولاً بحصر زيارات الموفدين بهؤلاء المسؤولين، من دون أن ينشغل البلد بلقاءات وزيارات على مستوى واسع مع شخصيات سياسية نافذة، الأمر غير المعمول به منذ تكوين هذا البلد، وإذا لم تحظَ شخصية ما بلقاء ما ينشغل البلد وإعلامه بسلسلة من التكهنات والروايات عن الأسباب والخلفيات، ويرتفع الصوت حول رفض الاستثناءات وتجاوز أحد المكونات. تلك هي تركيبة لبنان. والأمر الثاني المتعلق بحصر القرار في مجلس الوزراء، أن بعض الذين رفعوا الصوت في هذا الاتجاه يناقضون أنفسهم. إذ عندما تكون المشاورات قد شملتهم، ووصلت الأمور إلى حد الاتفاق، تأتي الطبخة جاهزة إلى طاولة المجلس تعييناً للوزراء في البداية ثم للموظفين، ثم ما يتعلق بالقرارات السياسية .
لبنان يمرّ بمرحلة استثنائية مصيرية صعبة والمطلوب توافق وطني وتوحيد الرؤية والموقف. وأحد المآخذ الأساسية على إدارة شؤوننا السياسية الرسمية هو غياب هذا الأمر، واستغلاله من قبل كثيرين في الداخل والخارج. والأدهى من ذلك، أن بعض المعترضين ورافعي أصواتهم ومسرّبي تهديداتهم بالانسحاب من الحكومة، يعرفون قبل غيرهم أن مثل هذا القرار ليس ملكهم وحدهم! فالعناصر المؤثرة فيه خارجية، من دون الانتقاص من قيمة ومستوى "سياديتهم". كتب الكثير وقيل الكثير عن لقاءات توم بارّاك. ما أزعج البعض هو توافق الرؤساء حول العناوين المفصلية. ولقاء هادئ جيد مع رئيس الجمهورية، كما قال السفير توم نفسه. ولقاء ممتاز مع الرئيس نبيه برّي المحترف، "فعندما تعمل مع محترف يمكن الوصول إلى نتيجة"، كما قال الرجل نفسه. فأين المشكلة إذا كانت الأمور تسير في اتجاه معقول مقبول، ليتحقق المأمول وفق الأصول؟ ولم يقل أحد أن الأمور وصلت إلى خواتيمها الإيجابية. نحن في بداية طريق. وطريق صعب، شائك، وإسرائيل تقف بالمرصاد وتصرّ على شروطها، وعلى انتهاكها اتفاق وقف الأعمال العدائية وتستبيح كل شيئ.
البلد لا يحتمل العنتريات والتحديات والبطولات "المنبرية" والتهديدات "بقطع الأيدي" "ونزع الأرواح" وبـ"الويل والثبور وعظائم الأمور"، إذا كان ثمة أمر لا يعجب هؤلاء "المنبريين" ومصالح فريقهم، ومن يقف وراءهم، فالتجربة كانت قاسية ومرارتها لا تزال تؤلم ويجب أن يتّعظ الجميع .
والبلد لا يحتمل التحدي والمكابرة والاستقواء بخارج آخر على فريق داخلي شريك في القرار على كل المستويات، بفعل التركيبة الطائفية القائمة. مرارة هذا السلوك على مدى عقود من الزمن تركت آثارها في الجسم اللبناني كله وأضعفته .
اللقاء بين السفير بارّاك والرئيس بري كان جيداً. السفير تحدث بهدوء وموضوعية وأبدى تفهماً لواقعية محاوره. نعم لواقعيته. أعني هنا ما أقول لأن الرجل لم يذهب في اتجاه مزايدات أو حسابات ضيقة. وضع أمام ضيفه مصلحة كل لبنان أولاً وفي الوقت ذاته مصلحة الفريق الذي يمثل، على قاعدة أنه لا يجوز التفريط بأي من المصلحتين. لبنان وطن للجميع، مصيره يعني الجميع والمكوّن الذي يمثله بري جزء أساس من هذا النسيج الوطني اللبناني. نبيه بري تصرف من موقع المؤتمن على المصلحتين المتلازمتين. المدرك ما يجري في المنطقة ونتائج ما جرى في لبنان، والمتغيرات الدولية والإقليمية والداخلية التي تجعل إسرائيل تستقوي مدعومة من قوى دولية وإقليمية كبرى، ومستفيدة من انقسام لبناني داخلي خطير. تصرف من موقع الرجل الذي تقع على كتفيه مسؤولية حمل جبال بكل ما للكلمة من معنى. ففي ذلك أمانة وحرص وطني على لبنان وأهله من موقع لبناني صاف. قد لا يريح موقفه بعضهم، لكن البدائل التي تطرح غير واقعية. غير مطمئنة. والجواب على ما تقدّم به قد لا يكون إيجابياً من قبل إسرائيل. لكن المسؤولية الوطنية تقضي بالتعامل مع ما جرى بكل حرص بعيداً عن التشكيك والتهديد والوعيد والاستهتار من هنا وهناك .
في مرحلة الشغور الرئاسي قلت ثلاث كلمات: "ساعدوا نبيه بري" وكانت مبنية على ما يفكر به الرجل وينوي فعله. كثيرون غضبوا. وآخرون استخفوا بقصر نظر يميّز هؤلاء وحقد يميّز أولئك. بعد أشهر أعلن برّي تاريخ انتخاب الرئيس وفوجئ كثيرون، ثم أدركوا دوره المحوري في انتهاء الشغور الرئاسي وانتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية .
اليوم، أكرر الكلمات ذاتها "ساعدوا نبيه بري". استفيدوا من موقعه وموقفه. استفيدوا من الوقت. تواضعوا. تعاونوا. توحّدوا. لا تنسوا تجاربكم. ولا يكفي أن نتحدث جميعاً عن المرحلة المصيرية الوجودية التي يواجهها لبنان، وتكون حساباتنا ومواقفنا أخطر بكثير من هذا الخطر وأصغر من مواقع المسؤولية وأمانتها. كلام برسم كل المعنيين بإنضاج الموقف الوطني اللبناني في الحكومة وخارجها.