عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    12-Jun-2025

مادلين..!*علاء الدين أبو زينة

 الغد

للتذكير: في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، نشرت «منظمة التعاون الإسلامي» على موقعها ما يلي: «اختتمت القمة العربية والاسلامية المشتركة غير العادية، التي انعقدت في مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية بتاريخ 11/11/2023، أعمالها بحضور قادة دول وحكومات منظمة التعاون الإسلامي وجامعة الدول العربية... وتضمن القرار خطوات سياسية وقانونية وانسانية بما فيها كسر الحصار على غزة وفرض ادخال قوافل مساعدات إنسانية عربية واسلامية ودولية».
 
 
فلنتخيل فقط –حيث «كسر الحصار» المقرر لم يتجاوز منطقة الخيال القصصي- لو انطلقت في البحر المتوسط 57 سفينة تمثل دول منظمة التعاون الإسلامي، (الدول التي ليس لديها سفن يمكن أن تستأجر واحدة) بنية كسر الحصار عن غزة. يغلب أن ترافقها سفن تمثل دولًا متعاطفة مع إنسانية القضية الفلسطينية قاطعت الكيان مُسبقًا، وربما تتشجع دول أخرى محايدة. كان ذلك ليشكل عبئًا لوجستيًا على بحرية الكيان الصهيوني، وعبئًا سياسيًا وقانونيًا على الكيان كله. يصعب تصور أن يهاجم الكيان كل هذه السفن ويعتقل ركابها، خاصة إذا كانت ذات صفة رسمية وترفع أعلام الدول التي أرسلتها وتتبناها.
 
يمكن أيضًا تصوُّر أن تعلن هذه الدول –بصيغة جمعية كمنظمة- أن أي اعتداء على ركاب هذه السفن سيُعتبر إعلان حرب عليها جميعًا. وليس ضروريًا أن يكون الرد على «إعلان الحرب» إرسال الجيوش –الذي تخشاه هذه الدول. يكفي أن يكون الرد على دولة تعلن عليك الحرب قطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية معها وفرض مقاطعة وحصار عليها، وإثارة قضية قانونية صاخبة تقيمها الدول معًا على أساس القانون الدولي. وثمة بديل أقل كلفة أيضًا هو سماح الدول المعنية للنشطاء ومنظمات المجتمع المدني لديها بالالتحاق بنشاط «أسطول الحرية» الدولي لتمكينه من إرسال عشرات السفن وآلاف النشطاء، وتسهيل مهمتهم والقيام بما يقتضيه واجب دفاع الدول عن مواطنيها.
غير ممكن؟ يصعب العثور على عائق إعجازي لا يمكن التغلب عليه. لكنه مع ذلك غير ممكن لأن ثمة عوزًا في الإرادة والدوافع –إنسانية كانت أو حتى استراتيجية. وللمرء أن يتصور أي انقلاب سيحدثه تحرك من هذا النوع في الموقف الاستراتيجي لهذه الدول، لو أنها تصرفت بطريقة تنم عن شخصية، ككتلة، تحتمي كل واحدة من دولها بدفء المجموع! ولكن، يحدثُ دائمًا أن تنفض الاجتماعات التي يفترض أن تنشئ إرادة مشتركة وخطة واحدة، ويعود كل مشارك إلى بلده ويقول لنفسه: لم يبادر أحد، فلماذا أكون المبادر؟ ومن يضمن ألا يخذلني الآخرون ويتركونني في العراء؟ وعندئذٍ يُهرع المبرِّرون للنجدة وعقلنة عدم الفعل -عادة بوصف المبادرة بالتهور والانتحار الوطني.
مسألة الإمكانية حسمها الاثنا عشر متطوعًا الشجعان على متن «مادلين» عندما تصرفوا بلا إمكانيات تقريبًا -سوى يقظة الضمير وتحرر الإرادة. بهذه المؤهلات الذاتية العظيمة تجاوزوا العراقيل السياسية والدبلوماسية، وتحدوا تهديدات الكيان ومسيّراته متشجعين بعدالة الموقف وثقة الحس الأخلاقي. كانوا الرواد. وفي إثرهم انطلقت «مسيرة الصمود» من مواطنينا في دول المغرب العربي ليكونوا هم أيضًا أول العرب من أصحاب الضمير الصاحي. والوعد أن تأتي سفن «أسطول الحرية» تباعًا بالمزيد من الشجعان.
من المفهوم أن لا تصل «مادلين» إلى ساحل غزة لتوصل المساعدات الرمزية والدعم المعنوي المهم إلى المحاصرين المتروكين. ولا تحمل «مسيرة الصمود» مساعدات عينية من الأساس، وربما تتم إعاقتها حتى قبل اضطرار الكيان إلى التدخل. لكنّ الرحلتين في الحقيقة كسرتا الحصار حين هدمتا جدران الصمت واللامبالاة المتواطئة التي سمحت لحصار غزة بالاستمرار كل هذه المدة. والرسالة هي أن الحصار يمكن أن يُكسر بغير التصريحات، وبأكثر الطرق مباشرة وعملية.
سوف تضع شجاعة الاثني عشر بحارًا على متن «مادلين» والمشاركين في مسيرة الصمود ضغوطًا مستحقة على الحكومات التي تدعي التضامن ولا تترجمه إلى شيء. بل من المفارقات المفارقات أن بعض الاعتذاريين المعروفين على وسائل التواصل الاجتماعي لم يستطيعوا سوى الإشادة بالمتطوعين الشجعان وتقدير ما فعلوه. لم يصفوا عملهم بالتهور وأثنوا على حسهم الأخلاقي.
لم يغيّر ما فعله الشجعان في الرحلتين الواقع العسكري ولم يفرض شروطًا سياسية، لكنه أعاد للقيم الأخلاقية بعض الاعتبار.
كان بحارة «مادلين» يعرفون أن سفينتهم قد تُحتجز، وأنهم قد يُعتقلون، لكنهم بادروا إلى تمزيق ستار الصمت العالمي المُسدل للتغطية على الجريمة المستمرة، وحمّلوا أنفسهم مسؤولية الفعل حين اختارت الحكومات عبء التبرير. كانت «مادلين» أكثر من سفينة، وكانت رسالتها كتابة واضحة على الجدار: من لا يقف مع المظلومين اليوم ربما يكون غدًا ضحية لظلم يتحمله وحيدًا بعد أن يكون قد ساهم في تطبيع الصمت. كانوا 12 متطوعًا شجاعًا، وإنما بضمير كوكب.