الدستور
كل الاتفاقيات بين الدول تتوقف عن إلزامها إذا تعارضت مع صراع البقاء – بسمارك.
كان طوفان الأقصى زلزالًا سياسيًا هزَّ أركان العلاقة الأردنية–»الإسرائيلية»، إذ أوقف وهم الشراكة في السلام وكشف عن مشروع استيطاني توسعي يجعل الأردن هدفًا مؤجلاً. نشر قادة الاحتلال خرائط تُظهر الأردن جزءًا من ما يسمونه «إسرائيل»، وفي نشوة نصرٍ موهومٍ راحوا يتحدثون عن «إسرائيل الكبرى» من الفرات إلى النيل. وفي الوقت نفسه تستمر محاولات تقويض الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة من خلال الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، ومحاولات إضعاف دور إدارة الأوقاف الأردنية، وطرح أفكار لتقسيم زماني ومكاني للحرم الشريف.
ولم يكتفِ الاحتلال بذلك؛ فقد تنكّر لاتفاقية وادي عربة وهدّد الأردن مرارًا بقطع المياه والغاز عنه عقابًا على مواقفه الداعمة للأشقاء الفلسطينيين وجهوده في حشد موقفٍ دوليٍّ مناهضٍ للمجزرة. وطرحت جهاتٌ سياسية وأمنية صهيونية مرارًا سيناريوهاتٍ لترحيل الفلسطينيين إلى الأردن مرةً أهالي غزة ومرةً أهل الضفة في ظل أحاديث متكررةٍ عن مخططاتٍ لضمّ الضفة وغور الأردن من الجانب الفلسطيني.
ومع خمود أصوات المدافع تلوح فرصةٌ لالتقاط الأنفاس واستخلاص العِبر؛ ومن أهمها إعادة تقييمٍ جادةٍ لاتفاقية السلام التي باتت تهدّد الأمن القومي الأردني، لا سيما في مسارها الاقتصادي الذي رسّخ تبعيةً مقلقةً لمصادر الطاقة والمياه القادمة من الاحتلال. ولذلك يجب التحرّر التدريجي من هذه الارتباطات عبر مراجعة اتفاقيتي الغاز والمياه، والعمل أولًا على تحقيق الاكتفاء الذاتي في المياه والطاقة، ثم التوجّه نحو بدائل عربية .
وأرى أن على الحكومات أن تتيح للمجتمع المدني والنقابات ممارسة دورها في الضغط الشعبي المشروع، بما في ذلك مقاطعة المنتجات الصهيونية؛ فهذه الضغوط تشكّل أوراقَ قوةٍ تصبّ في مصلحة الأردن وسيادته.
ومن دروس الإبادة في غزة أن ندعم قدرات السلاح الجوي؛ فهو عصب الحروب كما أظهر طوفان الأقصى، مع توسيع قنوات التنسيق الأمني مع سوريا ولبنان ومصر لبناء شبكة عربية أمنية.
ويعزز هذا الموقف واقع إقليمي ودولي مفاده أن نتن ياهو وحكومته المتطرفة لم يعودا مقبولين في المنطقة، وأن المجتمع «الإسرائيلي» يتجه نحو مزيدٍ من التشدد. وتشير دراسات عدة إلى صعوبة إفراز حكومةٍ أقلَّ تطرفًا بشكل دائم، وما قد يبدو تراجعًا مؤقتًا متوقعا بهدف غربي لِتحميل نتن ياهو وحكومته تبعات الإبادة وتحسين صورة الكيان والتوسّع في الاتفاقيات الإبراهيمية من المرجح أن يعقبهُ ارتدادٌ وتأكيدٌ لعودةِ الحكومات المتطرفة التي تهدِم العلاقات بدل أن تبنيها.
والغاية من كل ذلك ليست القطيعة لذاتها، بل التحرّر من علاقةٍ سامةٍ مع كيانٍ يعمل علينا ويبتزُّنا ويتجاهل مصالحنا، بل يسعى في بعض الأحيان إلى أرضنا. ما أطرحه ليس ردّ فعلٍ عاطفيًا، بل ضرورةٌ موضوعية لحماية سيادتنا وهويتنا واستقلالنا ومستقبل أجيالنا.