عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    27-Oct-2025

موازين القوى وميزان "الجوهرجي"* غازي العريضي
المدن -
ثمة في لبنان من يبرر لاسرائيل عن قصد أو غير قصد استمرار عدوانها واحتلالها ومنع عودة أهل الجنوب الى ديارهم، وحصاد مواسم زيتونهم، وزرع أرضهم، وبناء خيمة للإقامة فيها، وتفقّد اقاربهم تحت عنوان: "ميزان القوى". بمعنى، اسرائيل هي الأقوى. والكفّة راجحة لمصلحتها فلماذا لا تكمل حربها. وثمة من يذهب أبعد من ذلك ليعلن بوضوح: "نحن في الولايات المتحدة طالبنا الإدارة الأميركية وأعضاء في مجلس الشيوخ، والكونغرس، ومسؤولين عسكريين، بمنع اسرائيل من الانسحاب من لبنان قبل نزع سلاح حزب الله"! 
أعرف أن المشكلة عميقة في لبنان، وأن ما جرى في الحرب الأخيرة خطير جداً وتداعياته كثيرة، لكن لا شيئ من دون نهاية. وما يجب أن نكون قد تعلمناه على مدى عقود من الزمن وخاصة خلال الحرب الأهلية بين 1975 - 1990، والحروب مع اسرائيل حتى ايامنا هذه، أن أخطر سبب هو الإنقسام العمودي والأفقي في البلد وبالتالي غياب الوحدة الوطنية بل تهديدها من الداخل أحياناً عند المطالبة بالتقسيم والاستقواء بالخارج وانتهت الأمور دائماً باتفاقات برعايات دولية وإقليمية لا تستحق شيئاً مما دفعه اللبنانيون. وللتذكير فقط أعود الى بعض المحطات. 
1 – عام 1969 كان ميزان القوى في المنطقة وبالتالي في لبنان لمصلحة إخواننا الفلسطينيين المتواجدين على الأرض اللبنانية فتمّ توقيع "اتفاق القاهرة" الذي صوّت عليه أعضاء المجلس النيابي بالإجماع باستثناء العميد ريمون إده ودون قراءته كما قيل! كرّس هذا الاتفاق حرية العمل الفلسطيني على الساحة اللبنانية وحصل ما حصل وتكرّس الانقسام الداخلي وفتحت ابواب ونوافذ الريح الخارجية، فاستمر لبنان ساحة الصراع الإقليمي والدولي ومحاولات قلب موازين القوى لمصلحة هذا الفريق أو ذاك. 
2 – مع توقيع اتفاق الطائف وتكليف سوريا بقرار أميركي دولي عربي إدارة الشأن اللبناني وتطبيق الاتفاق كرّس ميزان القوى فأدارته لمصلحتها ولم يتفق اللبنانيون على مصلحتهم. ومع ذلك تسجل ملاحظتان: الأولى: بعض مؤيدي سوريا طرحوا اعتراضات على بنود في الاتفاق وطريقة إدارتها المرحلة آنذاك، والثانية: ان سوريا والميزان لمصلحتها لم تضغط على ميليشيا لبنانية مسلحة تسليم سلاحها خلال فترة زمنية ولوّحت باستخدام القوة. الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل سلما سلاحهما الى سوريا والجيش اللبناني سريعاً تنفيذاً للاتفاق أما القوات اللبنانية فلم تفعل إلا بعد وقت طويل ومفاوضات مضنية معها لم تقبل بنتيجتها الإقدام على تنفيذ الاتفاق بل أصرّت على نقل السلاح الى الخارج لبيعه. سوريا و"ميزان القوى" والحكومة اللبنانية أرادا "أكل العنب لا قتل الناطور" كما يقال، أرادتا على نقل سلاح القوات عبر مرفأ بيروت الى الجهة التي اختارتها القوات. 
اليوم، ورغم اتفاق وقف الأعمال العدائية مع اسرائيل وبرعاية أميركية دولية وإقليمية، احتلت اسرائيل الأرض وتوسّعت فيها وترفض الانسحاب وتستمر آلة القتل لحصد مئات الأبرياء، وتفعل ما تفعل، وثمة من يطالبها بعدم الانسحاب حتى استكمال نزع سلاح حزب الله والعملية قد بدأت بنجاح كبير في الجنوب، وفي هذا السياق، يهاجم أركان هذا الفريق الدولة اللبنانية ويقولون لها علناً: "لا تلوموا المجتمع الدولي. لا تحمّلوه المسؤولية. لا تضعوا اللوم على الدول الراعية. لتقم الدولة بواجباتها وتتحمل مسؤولياتها – وهي تفعل ذلك – ولينفذ الجيش ما هو مطلوب منه"! والغريب أنهم يتجاهلون مواقف وتصريحات وبيانات القيادة المركزية الأميركية ولجنة المراقبة المعمول بها، عندما أشارت بدقة الى عدد القذائف والصواريخ والمواقع والآليات التي صادرها الجيش في سياق أدائه مهماته في الجنوب، والحكومة اتخذت قراراً تطلب من الجيش تقديم تقرير شهري فقدّم تقريره الأول بالتفصيل أمام كل الوزراء وثمة من لا يزال يشكّك ويبرّر أعمال اسرائيل "بميزان القوى"!
ويتزامن كل ذلك مع ضغط على الدولة اللبنانية للتفاوض المباشر مع اسرائيل. وكأن لبنان هو الذي يرفض مبدأ التفاوض ويتناسى كثيرون أننا ذهبنا الى التفاوض وبرعاية أميركية عبر الدبلوماسية المكوكية والموفد الأميركي هوكشتاين وكان اتفاق على ترسيم الحدود البحرية وبدأ البحث باستكمال ترسيم الحدود البرية وهي ليست عملية صعبة لأن ثمة 13 نقطة. 7 متفق عليها والباقي 6 نقاط جاءت الحرب وتوقف التفاوض. لبنان أكد أنه صاحب مصلحة بالتفاوض وحرص على انجازه باتفاق. لم يكن ثمة حرب. ولم يكن "ميزان القوى" مكسوراً لمصلحة اسرائيل. لم يذهب لبنان تحت الضغط والوعيد والتهديد. ذهب بقناعة بدأ مسارها عام 2010 مع الموفد الأميركي هوف واستكمل مع هوكشتاين. فلماذا الإصرار اليوم على جرّ لبنان الى تفاوض مباشر واتهام دولته وحكومته بأنها ترفض مبدأ التفاوض آخذين بعين الاعتبار أن ثمة اتفاقاً لوقف الأعمال العدائية تمّ توقيعه مع اسرائيل وهي لا تزال تشن الحرب، وإذا كانت المسألة مسألة "ميزان قوى" ألم يوقع الاتفاق والميزان لمصلحة اسرائيل؟ لماذا قبلت؟ ولماذا تستبيح كل شيئ ويتم سكوت البعض عن أعمالها وتأييد آخرين لها ويتم إقحام كل ذلك في حسابات داخلية صغيرة تحاول كسر الميزان الوطني وتحقيق غايات شخصية تحت عناوين طائفية أو مذهبية وطموحات واندفاعات غير محسوبة بل متهورة لا يستفيد منها إلا الآخرون؟ 
3 – في هذا السياق ينبغي الوقوف عند اجتياح 1982 عندما كان "ميزان القوى" لمصلحة اسرائيل وانتخب على أساسه الشيخ بشير الجميل رئيساً للجمهورية وليس سراً القول أنه كان ثمة اتفاق بينه وبين اسرائيل على انتخابه رئيساً وتوقيع اتفاق معها. عندما انتخب، والحقيقة تقال، طالبه بيغن بتوقيع الاتفاق، في جلسة قبل أن يستلم منصبه كان الجواب: "لا استطيع التفرّد يجب أن يكون تفاهم مع الشريك المسلم". وكان غضب اسرائيلي، وهنا بدأت مسيرة رفع الغطاء. وحصل ما حصل. تصرف الرجل من موقع "المسؤولية الوطنية اللبنانية" فهل يتجاهل كثيرون من مؤيدي مسيرته ومشروعه هذه الحقيقة ولا يتعلمون؟ لا يمكن الذهاب الى اتفاق مع اسرائيل دون توافق وطني لبناني، يبدأ بين أركان الحكم في الدولة ويشمل القوى الأساسية في البلد صوناً لوحدتنا الوطنية في مرحلة هي أخطر مما شهدناه عام 1982 وأيضاً واحدة من مراحل المشروع الاسرائيلي الرامي منذ ذلك الوقت الى تقسيم لبنان ثم المنطقة وتحويلها الى محميات اسرائيلية وكنا بقيادة كمال جنبلاط أول من قاوم هذا المشروع وأوقفه، لكنه أطلّ علينا لاحقاً من العراق وهو يهدد كل المنطقة وقطع اشواطاً متقدمة للأسف!
المطلوب حماية لبنان. لبنان الكبير، وحدة أراضيه واستقراره ومستقبله، بإرادة وطنية جامعة، ومع إدراك المعادلة وميزان القوى لمصلحة اسرائيل فإن إدارة المعركة تستوجب الحكمة والعقل والصبر والتمسك بـ"ميزان الجوهرجي" لقياس كل المواقف والتصريحات والبيانات وإدارة كل المعارك استناداً إليه. ها هو الموفد الأميركي براك يعلن: "... على لبنان أن يحل انقساماته ويستعيد سيادته ولا تستطيع اميركا ولا ينبغي أن تكرر أخطاء ذلك الماضي". ويليه السفير الأميركي المنتظر وصوله الى لبنان ميشال عيسى ليقول: "الولايات المتحدة وشركاؤها مستعدون لمساعدة لبنان لكن هذه المساعدة يحب ان تترافق مع وحدة وطنية ومسؤولية". هل ثمة استعداد لتلقّف ذلك وإدارة شؤوننا بمسؤولية تعزز وحدتنا الوطنية فنستكمل تطبيق ما تم الاتفاق عليه في خطاب القسم والبيان الوزاري وقرارات الحكومة؟ لقد قدموا كل الضمانات لحماس في غزة قبل الوصول الى اتفاق. وتضغط أميركا بقوة لتنفيذه ومراقبته من الجو وعلى الأرض وحركة الموفدين الأميركيين الكبار لا تهدأ لتحقيق هذه الغاية. ألا يستحق لبنان شيئاً من ذلك؟ وهل نبقى متروكين ويستمر بعض الداخل في إطلاق مواقفه المذكورة؟
لا طريق إلا "العقل" ولا ميزان إلا "ميزان الجوهرجي" ...