عناوين و أخبار

 

المواضيع الأكثر قراءة

 
 
 
  • تاريخ النشر
    05-Oct-2025

وجه المستعمر*إسماعيل الشريف

 الدستور

«أنا لا أعترف بأن خطأً قد ارتُكِب بحق الهنود الحُمر في أمريكا أو السود في أستراليا. بل شعوب أقوى ذات مستوى أعلى من العالم، أتت وحلّت مكانهم... هذه طريقة الحياة». تشرشل.
في السادس والعشرين من آب الماضي، صعد السفير الأمريكي لدى تركيا -والمبعوث الخاص للرئيس ترامب إلى لبنان- إلى منصة المؤتمر الصحفي، وذلك عقب لقاء الوفد الأمريكي بالرئيس اللبناني ميشال عون، وفي مشهد معتاد يتكرر في مختلف عواصم العالم، تسابق الصحفيون الحاضرون في القاعة المكتظة على طرح أسئلتهم في آن واحد، ساعين جميعًا للحصول على إجابات مباشرة من السفير.
لكن هذه المرة، واجه السفير صحفيين عربًا، فتعامل معهم بنبرة متعالية مفعمة بالتكبر والازدراء؛ حيث قال: «في اللحظة التي تتحول فيها الأمور إلى فوضى، كما لو كنتم تتصرفون كالحيوانات، سنغادر فورًا. تصرفوا بشكل حضاري، فهذا هو جوهر الإشكالية في هذه المنطقة». ثم واصل بلهجة تحذيرية: «أرجو منكم الالتزام بالهدوء... ففي اللحظة التي تنقلب فيها الأمور إلى فوضى شبيهة بسلوك الحيوانات، سننسحب على الفور».
أثارت تصريحاته هذه موجة عارمة من الغضب والاستنكار؛ حيث طالبت نقابة الصحفيين اللبنانيين بضرورة تقديم اعتذار رسمي، بينما أصدرت الرئاسة اللبنانية بيانًا عبّرت فيه عن رفضها لهذه التصريحات المسيئة. ولاحقًا، اضطر السفير باراك إلى التراجع، مُقرًا بأن استخدامه لوصف «الحيوانية» كان غير لائق وغير مناسب.
لكن باراك ليس سوى نموذج متكرر من نماذج الاستعمار الذي لم يتغير. فهو يذكّرنا بليوبولد الثاني، ملك بلجيكا، الذي عرض الأفارقة كمعروضات في حدائق حيوانات بشرية مهينة. وهو لا يختلف عن وزير الدفاع الصهيوني السابق غالانت، مجرم الحرب الذي نعت الفلسطينيين بـ»الحيوانات البشرية». إنه امتداد طبيعي لعقلية استعمارية متجذرة، تجسدت في اتفاقية سايكس-بيكو التي قسّمت تركة الإمبراطورية العثمانية كغنائم حرب، أو في مؤتمر برلين حين وزّع بسمارك القارة الأفريقية كهدايا بين القوى الاستعمارية الأوروبية. الحقيقة المرة هي أن نظرة الاستعمار إلينا لم تتبدل يومًا.
في الماضي، كانوا يصمِوننا بالبرابرة والهمج، ويصفون شعوبنا بالمتخلفة وأعراقنا بالدونية. ثم تطورت هذه المصطلحات الاستعمارية القديمة لتتخفى خلف شعارات براقة وجذابة مثل: التنمية المستدامة، الحكم الرشيد، نشر الديمقراطية، حماية حقوق الإنسان، تعزيز الإصلاح، محاربة الإرهاب، وإرساء السلام. لكن الجوهر والهدف النهائي بقي كما هو: نهب ثرواتنا وإحكام السيطرة على شعوبنا.
في الكونغو البلجيكية إبان حكم ليوبولد الثاني، في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كانت شركات استخراج المطاط تفرض على القرى الأفريقية حصصًا إنتاجية إلزامية، وكل من يفشل في استيفاء النصاب المطلوب كانت تُقطع يداه عقابًا له. واليوم، يتكرر المشهد ذاته بصور مختلفة: مليون طفل عراقي يُقتلون من أجل السيطرة على النفط تحت ذريعة زائفة عن «أسلحة دمار شامل»، وفي غزة تُرتكب أبشع جرائم الإبادة الجماعية في العصر الحديث لنهب ثروات الغاز، وذلك فقط لأن حركة حماس تجرؤ على تحدي الهيمنة الغربية ورفض الخضوع لها.
باراك توم يمثل الوجه العاري للاستعمار، دون تجميل أو تزييف؛ إنه التعبير الفج والصريح عن حقيقة النظرة الغربية تجاهنا. ففي حوار أجرته معه صحيفة ناشيونال نيوز في الثاني والعشرين من سبتمبر، صرّح بوضوح صادم: «نحن لا نثق بأي منكم، فمصالحنا غير متوافقة. مصطلح «حليف» غير دقيق في وصف علاقاتنا معكم، لكن علاقتنا مع إسرائيل مختلفة تمامًا، إنها علاقة استثنائية وعاطفية. أما بالنسبة للسلام، فهو مجرد وهم لن يتحقق. القوة هي التي تصنع الحق، وأنا شخصيًا أعارض قيام دولة فلسطينية».
وفي تصريح لاحق لقناة الجزيرة، ذهب باراك إلى أبعد من ذلك حين قال بازدراء: «لا يوجد شيء اسمه الشرق الأوسط، بل مجرد مجموعة من العشائر والقرى المتناثرة. أما الدول التي تزعمون وجودها، فقد كانت من صنع البريطانيين والفرنسيين».
قد تكون تصريحات باراك هذه مقصودة ومدروسة، تهدف إلى كشف الوجه الحقيقي للمشروع الاستعماري، وذلك ضمن استراتيجية أمريكية للضغط على العرب في سياق إعادة ترسيم خريطة المنطقة. ولعل الغاية الأعمقمن وراء هذا الخطاب هي زرع مفاهيم التخلف والعجز والانقسام في أعماق وعينا الجماعي، حتى نستبطنها ونؤمن بها، وبالتالي نتصرف وفقًا لها، مما يسهّل على القوى الاستعمارية مهمة إخضاعنا وفرض سيطرتها علينا.
لقد عبّر المفكر إدوارد سعيد عن هذه الحقيقة بعمق حين قال: «إن أخطر أشكال الهيمنة ليست الاحتلال العسكري المباشر، بل أن نستبطن الصورة النمطية التي يرسمها المستعمِر عنا ونؤمن بها». من هذا المنطلق، فإن كل لفظة يتفوه بها باراك ليست مجرد هفوة عابرة أو زلة لسان عفوية، بل هي تجسيد واضح لعقلية استعمارية متجذرة تنظر إلى العرب والمسلمين، وسائر الشعوب المستضعفة في الأرض، باعتبارهم أقل شأنًا وقيمة من الإنسان الغربي.
وعلى النحو ذاته، أكد المفكر والمناضل فرانتز فانون، أحد أبرز رواد الفكر المناهض للاستعمار، أن الاستعمار الحقيقي والأخطر يبدأ حين ننظر إلى أنفسنا بعيون المستعمِر. لذلك، فإن الخطوة الأولى والأساسية على طريق التحرر الحقيقي تتمثل في رفض هذه المصطلحات المفروضة علينا، تلك التي تسعى إلى تحديد مكانتنا في مرتبة دونية وتصويرنا كأمم أقل قيمة وحضارة من الآخرين.
نحن لسنا مجرد «الشرق الأوسط»، ولا «العالم الثالث»، ولا «الدول النامية» كما يحلو لهم تصنيفنا، نحن أمة عريقة ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ؛ نحن أصحاب واحدة من أعظم وأقدم الحضارات الإنسانية، الحضارة العربية الإسلامية، بهويتنا الأصيلة الراسخة، ولغتنا العربية الخالدة، وثقافتنا العميقة المتجذرة، وتاريخنا الممتد عبر آلاف السنين. نحن أصحاب إسهامات حضارية جليلة في مسيرة البشرية جمعاء، ومنارة أضاءت للعالم دروب العلم والفكر والمعرفة والتنوير.
قد نكون اليوم في حالة ضعف ومرض، وهذا صحيح في كثير من الأحيان بسبب ما فعلوه بنا، وهو ما شجعهم على التجرؤ علينا واستباحتنا. لكننا أمة لا تُقهر ولا تموت؛ فقد مررنا عبر تاريخنا الطويل بمحن ومصائب تشبه ما نعيشه اليوم، بل ربما أشد، ومع ذلك نهضنا في كل مرة من جديد أقوى مما كنا. وسننهض مرة أخرى، كما ينبعث طائر الفينيق من تحت الرماد، أقوى وأعظم مما كنا.